الارشيف / أعلام و مشاهير

رحيل الشاعر الصغير و أبرز الشعراء العرب المعاصرين " سعيد عقل "

قبل أن يصحى لبنان من صدمة فقدان " صباح " الأسطورة و المطربة " نـهاونـد " قبل أيام قليلة، هـا هـو اليوم يخسر الشاعر اللبناني " سعيد عقل " الذي يعتبر من أبرز الشعراء العرب المعاصرين عن عمرٍ يناهز الـ 102 عاماً تاركاً إرثاً شعرياً و ثقافياً هائلاً.


لم يكن الشاعر المخضرم، الذي رحل عن مائة و سنتين، يأبه للتصنيفات الشعرية، و لم يكن طرفاً في معارك بين من يدعو لقصيدة النثر أو التفعلية، أو أولئك الذين يطالبون بالاقتصار على الشعر العمودي، فكان لـ " عقل " أسلوبه الخاص، إذ استثمر كل الأنواع الشعرية و صاغها ضمن قالب فني و جمالي محبّب.

و علاوةً على ذلك، لم يكن الشاعر من المتزمتين في مجال اللغة، فمثلما كتب قصائد باللغة العربية الفصحى، فإنه أفرد مساحات في تجربته الطويلة للشعر المحكي، بل كان مدافعاً شرساً عن العامية اللبنانية، و هذه القصائد التي كُتبت باللغة العامية وصلت إلى أسماع الكثيرين بعدما غنتها " فيروز " لتستقر في ذاكرة أجيال متعاقبة.

 



تميّز الشاعر بلغته العربية البليغة و البسيطة في آنٍ واحد، إذ كان يغوص في بحار اللغة العربية الشاسعة باحثاً عن كنوزها و جمالياتها، ناحتاً الكلمات نحتاً، فهو صاحب مفردات خاصة في الشعر، و له ديوان بعنوان ( رندلي )، و هي مفردة لا معنى لها لغوياً، لكن إيقاعها المحبّب الذي يحمل جرساً موسيقياً عذباً جعل الشاعر يختارها. كذلك تميّز شعره بالتجديد، و كتب قصائد عدّة خصّ بها البلدان العربية غنت فيروز منها : سيف فليشهر - مكة - أحب دمشق - شط الإسكندرية.
 

رغم أن قصائده تنطوي على شيءٍ من الرمزية و التلميحات الخفيّة لكنها خالية من البكائيات و التفجع، فهو كان دائم الاحتفاء بالحياة يكتب شعراً تحلِّق في فضاءاته الأطيار و الأقمار و تطرِّز جوانبه كلمات العشق و الصبابة و تطل من بين سطوره لوعة المحبين عبر غزلٍ متفرد، عذب و رقيق يكاد يشكّل قطيعةً مع التراث العربي الغني في مجال التغزُّل بالحبيبة.

و أقرَّ " سعيد " بأن في شعره بعض الرمزية، لكن يضيف بتفاخر : " شعري أكبر من ذلك، يضم كل أنواع الشعر في العالم، هؤلاء الذين يصدقون أنهم روّاد مدرسة من المدارس ليسوا شعراء كباراً، الشعراء الكبار هم الذين يجعلون كل أنواع الشعر تصفّق لهم ".

 

 

و لقد ولد الشاعر اللبناني الكبير " سعيد عقل " في 4 تموز من العام 1912 في منطقة زحلة، إحدى أقضية محافظة البقاع بـلبنان. تلقّى دروسه الأولى في مدرسة الأخوة المريميين، و كان يعتزم التخصص في الهندسة، لكن إفلاس والده و هو في الخامسة عشرة من عمره اضطرّه لترك المدرسة و تحمُّل مسؤولية المشاركة في إعالة العائلة، و بدأ بالكتابة في صحف عدّة منها : البرق - المعرض - لسان الحال - الجريدة - مجلة الصياد.

تعمّق في اللاهوت المسيحي و درس تاريخ الإسلام و فقهه، و ألقى دروساً في تاريخ الفكر اللبناني و اللاهوت. عمل " عقل " في التعليم و الصحافة، و لُقِّب بالشاعر الصغير منذ طفولته، كما اعتبر " سعيد عقل " من أكبر الداعين إلى القومية اللبنانية. و ساهم بصورة فعَّالة غداة حرب لبنان 1975 في تأسيس أهم الحركات السياسية المعروفة بدعوتها إلى القومية اللبنانية.

 



من دواوينه : قصائد من دفترها، رندلي، دلزي، و أجمل منك ؟ لا. و من كتبه أيضاً ( خماسيات )، و هي مجموعة قصائد باللهجة اللبنانية و الحرف اللبناني، و صدر في عام 1978.

كذلك كتب أعمالاً نثرية، هي : يوم النخبة - كأس الخمر - و " لبنان إن حكى " الذي يتطرّق إلى أمجاد لبنان بأسلوب قصصي. و في المسرح كانت مسرحية ( بنت يفتاح ) أولى آثار " عقل "  الشعرية المهمّة، لتتبعها ( المجدلية ) ثم مسرحية ( قدموس ).

و في العام 1962 أسّس جائزة شعرية تشجيعاً لكتابة القصائد التي تتغنّى بلبنان. و في العام 1981 صدر لـ " سعيد عقل " ديوان شعر باللغة الفرنسية اسمه ( الذهب قصائد )، و هو كتاب جامع يحمل خلاصة أفكاره.

و تحفظ قصائد " سعيد عقل " أجيال عدّة من اللبنانيين، حيث أُدرجت قصائد منها في المنهاج التعليمي اللبناني.

غنّى لـ " عقل " كبار المطربين اللبنانيين، أبرزهم " فيروز " التي غنّت له من ألحان محمد عبد الوهاب ( مُر بي )، و من ألحان الأخوين رحباني قصائد عدة منها ما يتغنّى بالقدس و الشام و مكة، و أشهرها : زهرة المدائن - يارا - بحبك ما بعرف - أمي يا ملاكي - سيف فليشهر.



 

 


و يعد " سعيد عقل " واحداً من أكبر دعاة القومية اللبنانية، و أسس في العام 1972 حزب التجدد اللبناني. و آمن " عقل " بفرادة الأمة اللبنانية و الخصوصية اللبنانية، فهو كان يدعو الى التخلّي عن اللغة العربية الفصحى لحساب العامية اللبنانية، و قد أطلق ثورته اللغوية هذه مع " يارا " في العام 1961 داعياً إلى نبذ الحرف العربي و اعتماد الحرف اللاتيني مكانه، و إلى اعتبار لبنان فينيقياً و ليس جزءاً من العالم العربي. و قد أوقعته هذه المواقف في جدل مع من يؤمن بإنتماء لبنان إلى العالم العربي.

بشعره الأبيض المنفوش و طريقة كلامه المسرحية و صوته الأجش و لهجته الواثقة، لم تخنه ذاكرته في أيامه الأخيرة إلا أحياناً، و قد خفّ سمعه، لكنه كان دوماً خلال جلساته حاضر الذهن يلقي القصائد على طريقته، بدون توقف.

رحل " سعيد عقل " و ترك الشعر اللبناني يتيماً ...

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى