الارشيف / عالم المرأة / أخبار المرأة

أزياؤنا إن حكت..!

  • 1/2
  • 2/2

بروين حبيب - البحرين - " وكالة أخبار المرأة "

تستوقفني عبارة الرّاحلة كوكوشانيل: «المرأة غير الأنيقة نلاحظ ثيابها، أما الأنيقة فنلاحظها هي» وهي أن لم تكن قاعدة مهمة في الحياة، فهي ملاحظة دقيقة جدا وتختصر نظرة الإنسان للآخر بشكل عميق.
ومهما توالت نظريات من يتبنون نظريات أخرى تبقى مقولة شانيل الأقوى على الإطلاق.
لأن الإنسان وإن كان يعطي نظريات أخرى مناقضة تماما لهذه الفكرة إلا أنه سجين لحكمة شانيل. ذلك أن اللباس يعكس جزءًا كبيرا من شخصية الإنسان، ولعلّ أول من أدرك ذلك صنفان من الناس، الشخص الحرّ الذي يرى أن شخصيته لا تكتمل أن لم يلبس ما يريد، والشخص الذي يدرك أن المظهر جواز سفر نحو ما يريد… لقد استعمل اللباس وسيلة لبولوغ غايات مهمة… وقد بدأت موجات الموضة المرتبطة بجنون اللباس قبل أن تهب بعض التيارات الفكرية وتكتسح جوانب مهمة من العالم.
حين نرى قبائل «المورسي» الأفريقية البدائية في برامج تلفزيونية، عارية تماما إلا ما يغطي أعضاءهم الحميمة بخرق بالية، ونعتبر ذلك نوعا من البؤس الذي يعيشون فيه، فيما الناس في تلك القبيلة يشفقون على من يحاورهم ويصورهم لأنهم لا ينعمون بالشمس والهواء وملمس الطبيعة الناعم لهم. يبدو الأمر مثيرا للدهشة تماما حين نرى تلك الجماعة البدائية تتعايش من دون أن تتحرّش بأنثى عارية، وحتى حين يسأل صاحب البرنامج رجلا من هؤلاء عن امرأة أمامه ألا تغريه؟ يجيبه بكل هدوء أنه اختار عروسه.
وكأنّ ما قاله مارك توين على أن «الحشمة» ولدت مع اختراع الثياب يبدو صحيحا، وفي هذا إشارة ذكية أيضا إلى أن مشاعرنا تتغير تجاه الآخر حسبما يرتديه.
في بلدان أكثر بدائية من قبائل الأمازون وقبائل المورسي في إثيوبيا، يتحوّل اللباس إلى لعنة تلاحق صاحبها، كما حدث في السودان حين جلدت امرأة بسبب ارتدائها البنطلون. أو حين ذبحت نساء في الجزائر خلال التسعينيات لأنهن لم يرتدين الحجاب، حين دعت إليه الجماعات المتطرفة، أو مؤخرا حين أعدم أتباع «داعش» خمسة رجال عراقيين في الموصل لأن نساءهم غير متحجبات… وهذا أقسى ما يمكن أن تتعرض له امرأة حين تتحمّل مسؤوليتها وترتدي ما تريد، إذ أصبح الأمر متعلق بحياة من تحب.
وغير القتل تنتهج طرق مختلفة للضغط على المرأة على ارتداء ما تريده جماعات مؤيدة للفكر المتطرف، كالتحرش في الشارع، أو قذفهن بالحجارة، أو إهانة أزواجهن أو أخوانهن الذكور أو آبائهن، يزج الجميع في بوتقة واحدة ويمارس عليهم الضغط بأقسى أنواعه.
والحديث عن هذه الجماعات لا يتوقف عند الجماعات التي تدعي أنها تطبق الشريعة الإسلامية، ففرض نوع معين من اللباس على أتباع طائفة أو تيار ديني أو سياسي موجود منذ زمن بعيد ولا يزال وسيبقى. ذلك الإنسان يحتاج دوما إلى إشارة ما ليعرف من يشبهه أو من يختلف عنه، والسبب لا أستطيع تحديده وحدي في هذه العجالة.
لكنني أدري مثلا أن بدلة الجيش تعطي هيبة لصاحبها، وبدلة الطبيب تمنحه الاحترام، وبدلة رجل الدين كيفما كانت ديانته تمنحه الوقار، وتجعل الناس يعتقدون أنه مقرب من الله وأنه أكثر فهما لفقه الدين منهم وهذا اعتقاد يوّلده منظر اللباس.
بالمختصر، الثوب رسالة للآخر شئنا أم أبينا وهنا يكمن السر في نجاح الكثيرين حين يعتمدون اللباس «الوسيلة التي تبرر الغاية»، وقد خدع منا الكثيرون لأنهم صدقوا اللباس قبل أن يتأملوا الشخص جيدا ويقرأوه، كما يقرأ كتاب، فالحكمة الخارقة التي تقول «إحذر أن تقيم كتابا من غلافه» لم تنفعنا كثيرا في حياتنا… نحن شعوب لا تقرأ.. لا نقرأ الكتب، ولا نقرأ الوجوه، ولا نقرأ حتى الخيارات الحرة للبشر لأننا قُولبنا على أن نعتمد نماذج معيّنة في حياتنا من الأشكال والألوان والوظائف.
لكوكو شانيل إذن كل الحق حين أطلقت حكمتها العميقة تلك، لأنها امرأة حرة، وقد راهنت على إبرتها وخيوطها لإثبات وجودها أولا وثانيا لتغيير وجه العالم.
لقد كانت السيدة التي رفضت أن تعيش كما عاشت النساء في عصرها، بحثا عن زوج أو خليل ليصرف عليها، ظلّت تراهن على مهنتها حتى أصبحت سيدة اللباس في العالم. وحين تهمس في أذن المرأة أن تكون أنيقة فما تعنيه ليس أن تتعرّى أو تتغطى، ولا أن تتخفّى خلف رداء لا يعكس شخصيتها، لقد أرادت دوما أن تجعل المرأة تفكر في ما يناسبها ويريحها ويقدمها كسيدة محترمة.
هي نفسها عُرفت ببنطلوناتها «الشيك» وثياب مريحة وبسيطة. وحكايتها مع البنطلون لم تولد لتقليد الرجال، بل لتسهيل حركتها كخياطة وامرأة لا تحب تضييع وقتها في لملمة أطراف فساتينها والانتباه لكل حركة تقوم بها مخافة أن تظهر ساقيها للناس.
كانت سيدة متواضعة ومحترمة ومن هذا المنطلق صحّحت أزياء النساء وأضفت عليها لمسة عملية أكثر، ومتسعا من الحركة حتى لا يتحوّل اللباس إلى سجن يقيّد المرأة كيفما تحرّكت، أو كيفما جلست، أو كيفما فكّرت أن تكون. طبعا تغيّرت ملابس الناس كثيرا، ملابسي لم تكن مثل ملابس أمي، وملابس أبي لم تكن مثل ملابس جدي، وملابس السبعينيات ليست بملابس الثمانينيات، ولا التسعينيات.
كل شيء يتغير، لهذا نحن نستنتج الحقبة الزمنية لصورة ما من خلال ملابس الأشخاص فيها، حتى أنه من الهيّن أن نعرف من أي بلد الصورة. اللباس رسالة مشفّرة يرسلها الفرد للآخرين من دون أن يدري، لكن هل يمكن للباس أن يمنح التقوى لمرتديه؟ أو يمنحه الحكمة.. أو يمنحه العلم؟ إن ما لا نستطيع أن نفهمه هو أن اللباس يعكس ما في الداخل لكنه أبدا لا يغير مكنونات هذا الداخل. وقد سقطت رموز دينية كثيرة بسبب فراغها الداخلي، ولم تنقذ الجبة ماء وجوههم وهم يقعون في أخطاء مميتة حين يخاطبون جمهورهم.
ولم تستطع المرأة أن تلتزم بما أطلق عليه البعض الحجاب الشرعي، فقد بدأت موجته عاتية في نهاية الثمانينات، ثم انطفأت بعد أقل من ربع قرن وأصبحت اليوم ترتدي شيئا لا نجد له اسما، سوى أنها ثياب تغطي الجسد، ولكنها خالية من ذلك المحتوى الديني القديم الذي توهم البعض أنه سيترسّخ حين تعتاد المرأة على ارتدائه.
ضاعت بين صوتها الداخلي المنبعث من مكونات شخصيتها، وأصوات الخارج التي تملي عليها ما يجب أن تكون عليه… عاشت التجربة وملّت أو ما عادت اكترثت، أو خابت آمالها حين تمادى البعض في محاكمتها من خلال ما ترتدي.
الرجل أيضا دخل هذه الدوامة عندنا، لفترة أصبحت القشور التي يُغلِّف بها نفسه هي كل ما يملك، ثم فجأة وجد نفسه عاريا وفارغا.
مجتمع بأكمله دخل صراعات بلا معنى حول ما يجب أن نرتديه وما لا يجب أن نرتديه لنكون صالحين ومقربين من الله ومن البشر، صراع مختلف تماما عن صراعات دور الأزياء حول ما يجعل المرء أكثر أناقة أو أكثر جاذبية، أو أكثر سحرا. أزياء من أجل مزيد من الجمال، وأزياء من أجل الانبطاح ومحاولة الاختفاء والتلاشي… أزياء تزيدك ثقة في نفسك حين لا تطمس شخصيتك وتترك لك خيارا لاقتنائها وأزياء تزج بك في إطار مدجج بالشيفرات السياسية والدينية والثقافية والجغرافية وتجعلك هدفا لمرضى النفوس.
كلها خيارات…
ولن أخفيكم أنني كتبت هذا المقال وأنا أحضر أزيائي لانطلاقة برنامجي في موسمه الجديد، مع العلم بأن أغلب تصميـــماتي أقـــوم بها بنفسي من عمق محبتي للعباءة العربية الباذخة في الجمال من أقصى الخليج إلى عمق مراكش…تلك العباءة التي اكتشفت أنها لم تأخذ حقــها كما يجب حين هبّت عليها رياح المفاهيم السياسية. ويبقى الكثير حول أزيائنا ولباسنا قد يقوله قرائي الكرام وسأعتبر ذلك بذخا آخر أحصل عليه بعد كل مقال…
مع أحلى سلاماتي… وللحديث بقية

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى