حين نقرأ الجملة التي كتبها تولوستوي منذ سنوات بعيدة، لابد أن تجعلنا هذه الجملة نتوقف قليلاً، ربما يبدو المعنى بسيط وهو أنك تستطيع أن تكون دائماً سعيد، وربما يكون المعنى أعمق من ذلك وهو أن السعادة لا تأتي من الخارج بل من ذاتك الدفينة.
في رحلة البحث عن السعادة قد لا نرى السعادة. لأنها لا تحمل مفهوم محدد، ليست حدث معين ينتظره الجميع، وهي ليست ثابتة ولا تعود ملكيتها لأحد.
ربما نحتاج في زمننا المعاصر إلى إعادة تدريس مفهوم السعادة لذواتنا ولأولادنا، قبل أن تجرفهم الأحلام و التوقعات مثلما جرفت من قبلهم. من حق أي انسان أن يحلم بالسعادة بل من واجبه أن يحلم بها، لأن هذا الحلم قد يدفعه لتحقيق المعجزات ولكنه لابد أم يحذر من الإنتظار المحموم للسعادة. لأنها لا تأتي كما نشاء أو كيفما نشاء وقتما نشاء. إنها متغيرة متقلبة منسحبة أو مقبلة. وكذلك لابد أن يكون تفكير الانسان بها، بمثل هذا التقلب والتغير والإنسحاب واللاتوقع.
وحين تأتي نفتح لها القلوب والأبواب ، ولكنها قد تنتظر أول فرصة كي تنسحب أو تهرب أو تختبيء، أي أنها خارج كل حدود التوقع والملكية؛ لذا ربما تكمن الحكمة العميقة بعدم إنتظارها ولا توقعها ولا حبسها، لأنها حرة طليقة، غادرة منيعة، وهي تحمل كل هذه الصفات الصعبة إن كنا نتظرها من العالم الخارجي.
أما حين تبحث عنها بهدوء بعالمك الداخلي، تتقفى أثرها في مشاعرك وأفكارك، بين ثنايا الحزن والمعاناة، أو الشك والتردد، أو ربما الحب والخيانة، فسوف تعثر بدايةً على آثارٍ خجوله لها، وذلك حين تتوقف عن النظر إلى الحياة كأنها قوالب جامدة، وحين تدرك أنك في حياة متغيرة متقلبة، قد تمتلكها اليوم وقد تهجرك في الغد، حين تنطلق بهذا الوجود من منطق اللاديمومة لكل ما بهذا الوجود عدا عن وجود الله الواحد الأحد الذي لا يفنى ولا يزول، يمكنك ساعتئذٍ أن تبدأ من الإقتراب من المفهوم الحقيقي للسعادة. فالسعادة ترتبط حتماً بفهومنا حول الحياة نفسها.
من الغريب أن تقف حزيناً لما فات ولما لم يأت وأنت بالأمس أو اليوم كنت شاهداً على موت صديق أو حبيب أو حتى عدو! من الغريب أن تقف حزيناً لما لم يكون وأنت ترى دموع الآخرين تنحدر حارة ومالحة لأجل شيء تمنوُه بكل رغبتهم بالحياة وحين حصلوا عليه تحول إلى سبب من اسباب الشقاء! من الغريب أن تتوقع من الآخرين ما لا تستطيع أنت أن تحققه لهم! فلماذا تمضي بهذه الحياة وأنت تحمل كل هذه الحقائب الثقيلة؟ حقائب الأمل الطويل، حقائب البكاء على ما فات، حقائب الحقد على ما لن يكون.
لست بهذه الحياة لأجل أن تحيا السعادة، بل أنت هنا لأجل هدف ورسالة. أنت هنا لتحقق شيء ما بهذا الوجود، وحين تكتمل صورة ما تريد تحقيقه تبدأ فعلاً من الإقتراب إلى كمالك الداخلي. وأكبر وهم تم توارثه عبر الأجيال هو أن السعادة لا تأتي إلا ممن حولك، وماذا إذا كان من حولك تعساء لا يستطيعون تقديم أي سعادة؟ هل ستحقد عليهم أم على القدر.
أنت هنا لست في إنتظار مروراً مؤقت أو دائم للسعادة ، أنت هنا لتكون ذاتك، ولتحقق رسالتك ولتفهم المعنى الحقيقي للحياة. حين يكتمل النمو الروحي للإنسان، والنمو العقلي والنفسي سيتوقف حتماً عن البحث عن السعادة، لأن كل ما بذاته يقوده نحوها، بل لن يحتاج للبحث في الخارج عن السعادة ، لأنه حين يجدها بأعماقه سوف يجدها بكل الوجود، لذلك كان لابد من التوقف في الحياة وإعادة التفكير بكل التفاصيل، وبكل الأحداث والأشخاص، لذلك كان لابد من التأمل وأن يدرك الانسان أن لوجوده بعدين، بعد داخلي وبعد خارجي ، البعد الخارجي هو كل ما يربطه بالعالم الخارجي؛ اما البعد الداخلي فهو كل علاقته مع حواسه وأفكاره ومشاعره . ومهما كانت السعادة الخارجية عظيمة فهي لن يكون لها صدى إن لم يكن هناك إدراك عميق للسعادة الداخلية للإنسان. أنت لست هنا لتلبس الملابس، ولا لتأكل أشهى الطعام ولا لتسافر عبر البلاد والبحار، أنت هنا لتفهم الحياة ولتدرك علاقتك مع الله واالكون وجميع المخلوقات. وإن لم تكن كذلك فأنت في بحث محموم عن سعادة كمال متعتها يكمن برحلة الهروب منك.