الارشيف / عالم المرأة / أخبار المرأة

جرائم لا يعاقب عليها القانون...ولكنها...

  • 1/2
  • 2/2

الأديبة والكاتبة الصحفية: سناء أبو شرار - الأردن - " خاص بـ " وكالة أخبار المرأة "

أوضح أنواع القتل وأسهله هو قتل الجسد، ولكن هناك أنواع أخرى من القتل لا نراها، لا نعلم بوقوعها، لا يعاقب عليها القانون ولا يُدينها المجتمع. جرائم تبقى صامتة، مستمرة ونازفة ولكن بلا دماء ولا عنف وبلا توقف أيضاً.
نعتقد بأن تقدم المجتمعات يمكن قياسه بتقدم القوانين التي تحكم هذه المجتمعات، ولكن الحقيقية الصعبة هي أن القوانين ليست سوى مستند ورقي لصحة التصرفات وعقاب من يخالف هذه التصرفات التي قننها القانون وضبط أصول تطبيقها. ولكن القانون يقف جاهلاً بل وعاجزاً أمام جرائم أخرى لم تندرج تحت نصوصه الحرفيه لأنها وببساطة ليست تصرفات عنيفة ولم تؤدي إلى الموت الجسدي. 
هذا النوع من الجرائم الصامتة يمكننا إيجاده في كل المجتمعات ولكن تتسع مساحتها في المجتمعات التي يقل بها الوعي النفسي والعاطفي والإجتماعي؛ مجتمعات تتبلد بها مساحة الشعور، وتُهدر بها كرامة الانسان وتتشوه بها القيم الإنسانية.
فكم منا توقف عن متابعة الدراسة لأن أستاذ ما أو مدرسة ما اخبرته بأنه طالب فاشل، ووجهت إليه كل أنواع النظرات المُحتقرة والعدائية الصامتة ثم الكلمات الجارحة. كم طفل فقد كل ثقة بنفسه وبقدراته لأن والده أو أمه كررت على مسامعه وعلى مدار سنوات بأنه طفل غبي ولن يكون له أي مستقبل. كم رجل فشل في علاقاته من النساء وكذلك مع زوجته لأن علاقته مع أمه كانت علاقة مريضة جافة وعقيمة. وكم امرأة فشلت بزواجها لأن والدها زرع بنفسها الخوف من كل الرجال. وكم رجل إستغل سذاجة امرأة ما وحبها له وخدعها مادياً أو عاطفياً ليتركها شبة مدمرة إجتماعياً ومعنوياً. وكم من الكلمات الغاضبة التي تصدر عنا دون تفكير تدمر معنوية من حولنا وتقتل رغبتهم بالإستمرار والعطاء.
وكم من جهاز حكومي يوظف عشرات العاملين لديه، يعملون لسنوات دون أن يستمعوا لكلمة تقدير واحدة، يدخلون لهذه المؤسسة ويخرجون منها كأنهم أموات بلا روح وبلا رغبة بالعمل. وكم من الشركات الكبيرة التي تمنح أعلى الأجور ولكنها تنتهك كرامة وخصوصية موظفيها بذريعة الراتب المرتفع الذي تمنحه لهم.
وكم وكم من أشياء كثيرة، فهل حياة الانسان وكرامته تقتصر على ما إشتملت عليه النصوص القانونية؟ هل مشاعره بلا ثمن بينما ممتلكاته المادية لها ثمن؟ هل يحق لنا بذريعة الغضب والإنتقام أن ندمر حياة من حولنا ونشوه سمعتهم خصوصاً إن كانوا ضعفاء إجتماعياً أو نفسياً؟
لربما يجب أن ندرس أولادنا بأن هناك مساحة شعور وكرامة لكل انسان، وأن التعدي على هذه المساحة هي جريمة صامتة. لربما يجب أن يتدرب معلومونا ومن جديد بأن كل طفل له كرامة وشخصية خاصة به وأن تدمير هذه الكرامة وإهانة الشخصية هو قتل معنوى للطفل. وربما يجب أن نعلم شبابنا بألا يفتخروا بإحتقار المرأة التي أحبتهم وتقدير المرأة التي تتجاهلهم وأن يكون صادق مع مشاعره وألا يفتخر بدناءة الإحتيال النفسي والمادي والمعنوي.
ربما وببساطة، لابد أن نستعيد الشعور بأن الآخر يتألم لما قد نقول أو نفعل، وأنه ليس الجسد فقط من يتألم بل الروح والنفس والقلب. القانون لن يُعيد لأي منا انسانيته وإحساسه بالآخر، والقانون لن يرقى ليكون شفافاً ورقيقاً، القانون يعالج التصرفات الفجة والخاطئة والعنيفة، لكنه لا يقوم ذات بشرية تسير في الحياة بلا مشاعر وبلا أحساس بكرامة الآخر وبألمه أو سعادته. إن لم يستطع كل منا محاسبة نفسه حين يتكلم وحين يشعر فسوف نكون دائماً على أهبة الهجوم على ذات الآخر بالإهانة والتجريح. العالم الغربي أدرك هذه الحقيقة ويحاول تطبيقها في كل مؤسساته، ولا تزال هناك صعوبات كبيرة بوجود أشخاص لديهم هذه النزعة العدائية الصامتة أو هذا الإحتقار لمشاعر الآخر، ولكن القانون الغربي منح مساحة واسعة للمطالبة بالتعويض المعنوي والنفسي؛ بل أعتبر بأن كل اساءة نفسية ومعنوية يمكن أن تكون موضوع للتعويض. ولكن هل يعالج التعويض المادي ما تم قتله أو إنتهاكه في النفس البشرية؟ هل يمكن للمال أن يُعيد الثقة لانسان مُدمر معنوياً؟ هل يمكن للمال أن يُعيد الشعور بالحب تجاه الآخر بعد أن تم قتل ذلك الحب بأبشع التصرفات والكلمات؟ وهل يمكن لقرار محكمة بالتعويض أن يُرمم أحلاماً مهشمة أو آمالاً ممزقة؟
الفرق العميق بين الجرائم التي يعاقب عليها القانون والتي لا يعاقب عليها القانون هو أن الجرائم المُعاقب عليها معروفة لنا جميعاً؛ يتم تنفيذها بالخطأ أو بالعمد والإصرار ولكنها تستغرق وقت محدد ولها نتائج معروفة ولايمكن أن تستمر جريمة قتل لعشر سنوات؛ قد يستمر التخطيط للجريمة لسنوات ولكن واقعة الجريمة لن تستغرق سوى بضع دقائق. أما الجرائم التي لا يعاقب عليها القانون فقد تستمر لسنوات بتخطيط أو بدون تخطيط وهي تترك ضحاياها بلا أمل بالنجاة لأنها تدمر أهم ما في الذات البشرية ألا وهي انسانيتها ثم حبها للحياة.
في نهاية كل يوم من أيام حياتنا المعدودة لابد أن نتوقف مع ذواتنا ونسأل أنفسنا هل قتلنا الحب في نفس شخص ما حولنا؟ هل شوهنا طموحه وزرعنا به اليأس وعدم الثقة؟ هل منحنا ما يستحقه الآخر من الكرامة مهما كانت أخطاءه؟ هل إحتقرنا الطيب والضعيف؟ هل نحن فعلاً نعيش بانسانيتنا أم بإحباطنا وحقدنا ثم عضبنا؟
إن كانت الجرائم المادية لها أداة للجريمة ، فجرائم الشعور لها أدوات أيضاً: إنها الكره، الحقد، الإحباط، كره الذات والآخر، النفور من سعادة الآخر بل ومن أحلامه أيضاً، جرائم الشعور ليست سوى تعبير صارخ عن تعاسة ذات بشرية تريد أن تُغرق كل من حولها بهذه التعاسة لكي تشعر بشيء من السعادة أو الراحة ولكنها مؤقتة ثم تبدأ من جديد. ولكن هناك شريك للجرائم التي لا يعترف بها القانون، إنه ذلك الذي يقف متفرجاً بسلبية، يرى الظلم والقهر ثم يُدير ظهره لأن الأمر لا يعنيه. ولا تكتمل هذه الجريمة دون هذا الشريك الصامت وربما يكون شخص أو أفراد بل وربما يكون المجتمع بأكمله حين يرى القهر والظلم ويقف صامتاً، ثم يتكلم بل ويصرخ حين ينص القانون على أن هذا التصرف أصبح مُجرماً. لابد أن نقلق جميعاً حين ننتظر العدالة من القانون فقط؛ لابد أن نحزن جميعاً حين يصبح القانون هو الضمير الأعلى ويصمت ضمير الفرد والجماعة؛ لابد أن نغرق بالكآبة حين تتحقق العدالة فقط بين أروقة المحاكم وبالتصفيق لنجاح المحامين أو عدالة القضاة. العدالة الحقيقية للحياة ليست النص القانوني ولا حكم المحكمة، العدالة الحقيقية للحياة هو أن يرفض الفرد والجماعة ثم المجتمع بأكمله الظلم والإحتقار والإهانة سواء أكان ذلك واقعاً على طفل أو امرأة أو رجل.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى