الارشيف / عالم المرأة / أخبار المرأة

الكوة الجانبية العارية ...

  • 1/2
  • 2/2

القاص والكاتب: عبد الجبار الحمدي - العراق - خاص بـ " وكالة أخبار المرأة "

ضوء خافت ... ممر ضيق كأنفاس من يتلصص عليها جيئة وذهابا لخيالها من عقب الباب، أما هي قلقت من غيبته، لقد قال: عشرة دقائق وسآتي وها هي الساعة  فارقت حوضها من الدوران ولم أسمعه يطرق الباب كعادته.
منذ ثلاث أيام خلت كانت قد أباحت له أنها تشعر بأن هناك من يراقبها يتلصص عليها بعد انتهاء وصلتها الغنائية التي تقوم بها في كل ليلة بعد عودتها الى غرفتها لإنتظاره كما هو شرطه الوحيد حتى يسمح لها بالغناء عشقها الأزلي على شرط أن لا تختلط مع الآخرين من عازفي الحفل او أي أحد من الزبائن، وكذلك كان شرطه مع زميله الذي واكبه في فترة من مراحل حياته وقبل الارتباط بمن يحب رغم أنف أهله...
احبته بصدق الى حد الجنون وكذلك هو، عانا الأثنان الكثير من نكران الايام لهما وقد صفعتهما حتى اغرقتهم في الديون ولجأوا الى النوم في حدائق عامة أو أزقة معتمة كما هو حال الممر الذي تقع غرفتها فيه...
أما ذلك المتلصص الذي ما أن تنتهي من وصلتها حتى ترى خياله المتطاول على خلوتها من تلك الكوة العارية إلا من زجاج مكسور قرم الزمن بها كما يقرم الطفل السكاكر، مسقطا أغلب أسنانه فباتت درداء لا تعكس نضارة شكلها الملون، يعتصر الخوف قلبها قافزا الى قمة بلعومها يريد الهرب، فقد مل هلعها المتواصل من كل صوت أو ظل أو خيال منكسر، عزفت أيقونة ترانيم ذلك الرعب الذي أمسك بمنجل الموت وهو يرتدي قلنسوته التي غطت كل معالمه فما عادت تميز اي ترنيمة تخاف... كل الاصوات التي تسمع يخيل لها أنها موعد مع الموت خاصة بعد أن تهددت من قبل أهله وأقرباءه وإتهامها بالدعر وكسر جهاز مناعة أعراف وقيم وتقاليد في داخل ولدهم باتخاذه ضمن قائمة العاشقين لصوتها وجسدها.
دفعت به كثيرا للكف عن ملاحقتها، ومن ثم عمدت الى طرده، حتى أنها تركت العمل واتخذت لها مسكنا بعيدا لا يعرفه أقرب الناس إليها فقط لكي تثبت لأهله أنه هو من يلاحقها وتلك جريرة دفعت هي الثمن أيضا من حياتها ابتلاء حبه، بعد أن رفض العديد ممن يعرفون بقصتهم السماح لها بالعمل كمغنية درءا للمشاكل، أما هو فقد ذاع صيته أنه الدلدول التابع... قٌلبت الموازين بنفوذ أهله كل حساباتهم، تضرع توسل حتى انه طلب منهم أن يتبرؤا منه، فقط كي يكفوا عنه، أما هي فقد ضحت بكل ما تملك من أجله، المقربون جدا لها عرفوا حقا أنها تعشقه الى حد الجنون... وما ارتباطهما الى دعوة لكسر حاجر الناموس السائد صرامة وحزما والرافض اجتماعيا لمثل هكذا ارتباط.
كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل، المكان الذي هي فيه يكاد يكون نائيا، يخلوا من حركة احدهم فبالكاد ما أن تسمع صوتا او دبيب اقدام إلا من الحارس الذين ينتهي شفته فيتساقط كالميت هلاكا من تعب وضجيج...
فجأة لاح لها رأس ذلك الخيال وهو يتلصص من الكوة المكسورة واختفائه بسرعة، تراجعت الى الوراء وهي تصرخ من هناك؟ من أنت؟
لكن لا جواب، دقائق حتى كُسر المصباح اليتيم الذي يتدلى من سقف غرفتها وقد أعلن انه استحق الشنق حتى الموت بعد أن أعلن قابس النور أنه لا يستحق الحياة وقد نال المصباح منه صعودا ونزولا تحية في كل خروج ودخول فعمد الى كسر مفصل رجليه ليعاق الى الأبد جلوسا دون قيام...
طفقت هي تتلمس وجه الظلام بيديها دون معرفة ملامحه، أو أين هو منها؟ اقتربت وهي تصرخ لقد انقطع النور هل من أحد في الممر؟! ارجوكم إني اخاف العتمة ... ثم صاحت صلاح ... صلاح أين أنت؟؟
تعثرت بكاحل قدمها وهي تتجه الى نحو الباب أو هكذا كانت تتخيل، سقطت على الأرض، وسرعان ما زمت أرجلها الى صدرها ونامت على الارض وهي تبكي بشدة وتصرخ....
حاولت بعد وهلة حين ادركت انه لافائدة من الصراخ بأن تصمت لتسمع اي صوت قد يقترب لتستنجد به، بيد أنها سمعت لهاث بحشرجة يقترب أثناء وقع اقدام نزول من على الدرج الذي يكاد يكون بقرب غرفتها... لا بل الصعود الى نهايته يترصد تلك الكوة ...
حبست انفاسها كأنها تغوص إلى عالم من الصمت المطبق، اقتربت منها الخطوات نحو باب الغرفة ثم توقفت خربشة خفيفة تلامس صدر بابها المسن الآيل للسقوط، لاشك أنها تبحث عن أكرة الباب تلك التي سرعان ما اديرت مع دفعة له مرة... ثم ثانية... لحظات مميتة، كأن أزميلا ينحت بجدار جَلَدِها محاولا سحبها الى عمق بحر الرعب المظلم لتخرج روحها الى الأبد، ولكن بعد محاولات حركة مقاومة، فلا لذة بالموت دون الشعور بغصة، وبرغم انحباس أنفاسها إلا أن قلبها يصرخ مدويا صلاح لقد جاء الموت وانت بعيدعني، لقد خنت عهدك لي، ألم تعاهدني بأن نموت ونحيا معا، لكني اجدك يا حبيبي قد علقت مع عقارب الزمن التي احاطت بك لدغا لكي تتأخر لاشك أن سمها المبرثن حقدا وغلا هو من أعاق حركتك وجعلك تتأخر... إني أعذرك يا حبيبي فأنا ادرك أن لا ذنب لك في كل ما يدبر لي الآن...
صرير أكرة الباب وهي تدور مرة أخرى أخرجها الى واقعها المظلم، دون وعي تحركت، مما دعا بمن في الخارج بدفع الباب بشدة ، لم يتحمل من تجاوز عمره المتهالك وقوفا حتى خر صريعا أمام تلك الدفعة القوية التي اطاحت به بعيدا وصوت أجش يقول: أين أنت ايتها العاهرة؟
لم تنبس بأي نفس ابتلع الخوف لسانها وفارقها الصراخ بالنجدة هربا من ذلك الصوت الذي سرعان ما سقط حامله هو الآخر بضربة قوية على رأسه بعد أن اخرج قداحته مشعلا إياها وبالأخرى سلاحا لتقع عيناه على يبحث عنها غير شاعر بحبيبها خلفه وهي قابعة تحت الكوة الجانبية العارية جاحظة العيون عند مشاهدته وقد كممت أنفها وفمها حتى لا تصدر أي صوت يشير الى مكانه وقد فارقت الحياة الى الأبد.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى