الارشيف / عالم المرأة / أخبار المرأة

يا بُني.. فلتعلم جيداً لماذا لا تبتسم أمّك

  • 1/2
  • 2/2

ريهام جلال محفوظ - " وكالة أخبار المرأة "

جاء ابني ذو الاثني عشر ربيعاً من مدرسته الجديدة في البلد الأوروبي الذي انتقلنا إليه منذ فترة ليست ببعيدة.. جاء وهو كالعادة لا يريد أن يتكلم أو يحكي لي عن يومه المدرسي.. وأيضا كالعادة تبدأ محاولاتي ومناوراتي كأم في محاولة لاستخراج أكبر قدر من المعلومات والأخبار منه بدون أن يحس أنه تحت تحقيق مخابراتي دولي صعب، أجيله يمين يجيلي شمال.. وأجيله شمال يجيلي يمين.
حتي باغتّه وفاجأته بالسؤال التأسيسي المحوري: لماذا تخفيت منّي اليوم عندما قابلتك في الشارع تمشي مع أصحابك راجعاً إلى المنزل دون أن تنظر حتى تجاهي وتسلم عليَّ؟
وبينما هو يؤكد أنه لم يقصد ذلك، ولم يتعمد أن يتجاهلني وهو مع أصحابه، ولكنني بحدس وشعور الأم الذي لا يخطئ أبداً (إلا فقط في الكثير من الأحيان) لم أكن أستمع إلى كل ما قاله، كنت فقط أرقب لغة الجسد وملامحه الوجه وهو ينفي أنه رآني، كل ما رأيته وسمعته منه كان يؤكد لي أنه بالفعل رآني وأنكر وجودي.
ADVERTISING
inRead invented by Teads
أفكر كثيراً في خلوتي.. لماذا فعل ذلك؟
شعرت أنه فعل ذلك ربما؛ لأن شكلي وملامحي وملابسي مختلفة عن أمهات أصدقائه، فأنا بحجابي وملامحي الشرق أوسطية ربما أكون مصدر إحراج له أمام زملائه الجدد في المدرسة، وربما يكون قد لا يتكلم عن أصوله كثيراً معهم.
أو ربما يكون لا يريدهم أن يعرفوا أنه من أصول عربية إسلامية حتى لا يتعرض للحكم المسبق من المجتمع حوله بأنه خلية إرهابية نائمة، لعن الله مَن أيقظها، أو على أخف الفروض حتى لا يجرحه أحدهم ولو مزاحاً بكلمة ثقيلة عن دينه أو أصوله.
في العادة.. ربما لن يلاحظ الكثيرون أنه من أصول عربية؛ لأن ملامحه ونعومة شعره الكستنائي لا توحي بذلك، قد يحسبه البعض آسيوياً أو هندياً أو أوروبياً شرقياً، أي شيء، أي شيء إلا أن يكون عربياً، أو مسلما، ولذلك إذاً فلا داعي لأن يروا أمه بذلك الغطاء الملون على رأسها، فينكشف أمره وسرّه الصغير الذي طالما حاول إخفاءه (ولست متأكدة إن كان قد نجح في ذلك).
ربما في أحسن الحالات ربما لا يريد أن تراني تلك الفتاة الصغيرة زميلة دراسته التي لم تسنح له الفرصة للتكلم معها إلى الآن؛ لأنه لا يجد في نفسه الشجاعة والمسوغات التي عند غيره لقبول ذلك، فما تعلمه في بلدتنا الصغيرة من قيم تحثه على عدم اتخاذ صاحبات ولا صديقات من البنات لأسباب اجتماعية ودينية.
تدور وتلف كل تلك الأفكار في رأسي، ذلك الرأس المزدحم بأعمال المنزل والأسرة وقائمة المشتريات للبيت.. تمضي الساعات وأنا أحاول التوصل إلى السبب الحقيقي الذي دفعه لتجاهلي وتعمد عدم النظر إليَّ في الطريق.. العقل يفكر، والقلب يتألم في الحقيقة.. آخر ما تريده أي أُم هو أن يتصنَّع ابنها عدم رؤيتها، بينما هي تمشي إليه مقبلة عليه، فاتحة قلبها وذراعها بحنان إليه.
لا بد من المواجهة لأرتاح، وربما لن ترضيني إجابته أياً كانت، ولكن لا بد من مواجهته ليطمئن قلبي.. ولأسترد يقيني.. لماذا؟ قل لي؟
يرد على استحياء: لأن مَن هن مثلك من النساء المهاجرات إلى هنا ممن لهن ملامحك ويلبسن حجابك ليس لهن قبول كبير بين الأولاد في هذه السن؛ لأنكن مختلفات، تلبسن ملابس مختلفة عن المجتمع هنا، والإعلام يتكلم كل يوم عن أنكن لا تحسنّ الاندماج في المجتمع الأوروبي، وأن حجابكن لا يمت للقيم الأوروبية بصلة.. الناس يتكلمون كل يوم أن عليكن خلع تلك القماشة التي على رؤوسكن حتى تدخلن سوق العمل والمجتمع المنفتح المتحضر، وتندمجن، حتى تكنَّ محبوبات.. هل عرفت يا أمي؟!
أرد بذهول: نعم.. أعرف قبلاً.. وعرفت الآن منك أكثر.
يكمل حديثه بنبرة صوت أقوى وأكثر ثباتاً: أتعرفين ما هو الأهم من كل ذلك؟ أنكن لا تبتسمن، لا تبتسمين يا أمي في الطريق، دائماً ما تكون ملامحك أقرب إلى الحزن منها إلى الفرح، أنتنَّ لا تبتسمن يا أمي أبداً في الطريق.. أمهات أصدقائي يبدون أصغر سناً وأكثر شباباً وهن يضحكن ويتنقلن برشاقة في الصباح بكل تفاؤل وثقة وسعادة.. ولكنكن لا تبتسمن أبداً يا أمي.
أبادره بالسؤال مقاطعة له: أتدري لمَ لا أبتسم يا ولدي؟
- لماذا؟
لا أتكلم عن نفسي وحدي، ولكن عن هؤلاء السيدات التي تصفهن بأنهن "مثلي" يمشين مهمومات في الطريق، هن مهمومات بالكثير، بداخلهن العديد من تلك الأفكار التي لا تستطيع في سنّك هذا فهمها أو استيعابها.
ولكن آن الأوان أن تتعلم لماذا لا نبتسم كثيراً في الطرقات يا ولدي؟
هموم الوطن البعيد الذي فارقناه طوعاً أو كرهاً ولكن قلوبنا ما زالت به معلقة، نتابع أخباره الحزينة يومياً، ونبحث عنها في الصحف والنشرات الإخبارية، هموم أهل وأصدقاء ودَّعناهم وتركناهم لا نسمع عنهم إلا القليل، ونخشى أن يصيبهم مكروه قد لا نستطيع أن نكون إلى جوارهم يوم يحتاجون لوجودنا هناك.
هم بَضعة منا ونحن بَضعة منهم، تخيَّل يا ولدي أن تترك بَضعة منك في مكان ما وترحل بعيداً.. مخاوف الاندماج في المجتمع الجديد كما يحلو للغرب أن يسميه.. أو "الذوبان" في مجتمعهم كما يريدونه هم في الحقيقة.. وأفكار كثيرة ومخيفة عن الثمن الباهظ الذي سنضطر لتكبده إذا تخلّينا عن قيم مجتمعاتنا وديننا؛ لنوفر لهم الحد الأدنى من الاندماج الذي يريدونه منا.. مخاوف المستقبل لك ولإخوتك ولجيلك من الشباب الذين فارقوا الأوطان في سن صغير لم تسنَح لكم الفرصة؛ لتبنوا فيه حبلاً قوياً من الذكريات والعلاقات والصداقات؛ لتكون حبلاً للنجاة يعيدكم إلى رشد الوطن يوماً ما حتى ولو بعد طول غياب.. تماماً كالحبل السري بين الأم وطفلها.. مخاوف من قيم غريبة ودخيلة علينا في مجتمعات جديدة لن تفتح ذراعيها لنا كاملاً إلا بعد أن تفرغ محتوانا العاطفي ومخزوننا الأخلاقي القديم؛ لتضعنا في قوالب جديدة صنعوها لتتسع فقط لقيمهم هم التي ينص عليها القانون.
أفكار كثيرة أيضاً يا ولدي.. خوفي عليكم مما يحمله المستقبل، هذا الزمن المتسارع الذي يأتينا بالعديد من المصطلحات التي أسمعها ولا أفهمها ولا أفهم معناها غير أني أحس بها تتبعني وتلاحقني أينما ذهبت وأتيت.. كلمات كالإسلاموفوبيا والإرهاب الإسلامي والاندماج المجتمعي واليمين المتطرف وحركات التحرر والإلحاد واللاأدرية والمثلية والتحولية والعنصرية والحرية الجنسية.. وألوان لقوس قزح التي أصبحت توحي لي مدلولاً غير محبب.. أصبحت لا أرتاح لرؤيتها.. قد كان قوس قزح لي أفضل رسوماتي وألعابي في قريتي المشمسة الدافئة البعيدة عندما كنت في عمرك يا ولدي.
هل تفهمني يا ولدي؟ هل تفهم الآن لماذا يعز عليَّ الابتسام والمرح في الطرقات بخفة من لا هموم عنده؟
هي رفاهية لا أملكها يا حبيبي.
تركني في صمت.. وقد أحسست بذنب أني نقلت إليه ما بي من هموم.. صغير هو ما زال، ولكن ربما آن للصغير أن يكبر الآن.
تركني وأنا أحدث نفسي، وماذا عليَّ إن تغلبت على همومي وأحزاني ومخاوفي وابتسمت؟ أليست ابتسامتك في وجه أخيك صدقة؟
وماذا عليك إن ابتسمت من الآن فصاعداً لتكون لك صدقة؟ وأيضاً من أجل ولدك؟!

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى