الارشيف / ثقافة و فن

آديــــوخ .. قصة للناشئة مستوحاة من التراث الشركسي

قصة للناشئة ( 12- 15 سنة)

 مستوحاة من التراث الشركسي

 ( 1 )

 

تقولُ الحكايةُ :

في كوخٍ متواضعٍ  في أَعالي نهرِ ( يَنْجِج )، أي : النَّهر الكبير، كان يعيشُ، شابٌّ نارتيٌّ شُجاعٌ و زوجتُه.

المرأةُ اسمُها : ( آديوخْ )، أمّا الرَّجلُ فاسمُهُ : ( مارجْ ).

كان ( مارجْ ) هذا رجُلَ غَزَواتٍ، يجلُبُ الكثيرَ من الخيلِ مِن بلادِ العمالقةِ و بلادِ الأقزامِ المجاورَةِ، آملاً _ من وراءِ غَزَواتِه هذه _ الحصولَ على الحصانِ المجَنِّحِ الذي يحلُمُ النَّارتيّونَ كلُّهم باقتنائِهِ، صِغاراً و كباراً.

و عندَ اقترابِ كلِّ عَوْدةٍ لـ ( مارجْ ) ،كانت تنطلقُ مِن الكوخِ الصَّغيرِ أُغنيةٌ عَذبةٌ تُنشدُها ( آديوخْ ) بفرحٍ غامرٍ، و بصوتٍ رخيمٍ، و بِلَحْنٍ لا أَحلى و لا أجملَ. و كانتْ تفعلُ هذا بينما تمدُّ ذراعَها النَّاصِعَ البياضِ من النَّافذةِ :

تمتدُّ ذراعيَ أَنتَظِـرُ                         عـودتَهُ إِليَّ يا قـَمَرُ

غـازٍ نـارتيٌّ يأْتيني                     بالفَرَحِ يكلِّلُهُ النَّـصْرُ

***

 آتٍ ؟

أَسْمَعُ صوتَ الخيلِ قريباً               لنْ أتركَ زوجيَ يَنْكسِرُ

                                 ***

  أُبعِـدُ غَيْمهْ

   أَجلُبُ صَحْواً

أَمْحــو ليلاً

      انْهَضْ اسْتَيْقظْ يا قَمَرُ

     ***

آديوخُ الحلوةُ مَشغولةْ               جِسْرُ الكَتّانِ يَنْتَشِرُ

      يَعْبُرُهُ العائدُ مُنْتَـصراً               ثم تُخــفيهِ فينْدَثرُ

***

آديوخُ الحلوةُ مشغولةْ              و عويلُ الرِّيحِ يَنْدَحرُ

لا الموجُ إِذْ يأتي هادرْ                  لا الماءُ يجرؤُ يَعْتَكِرُ

انهضْ، استيقظْ يا قمرُ

   ***

كوخٌ ؟

ما هَمَّ

مادامَ

في المعزفِ لحنٌ و الزَّهَرُ !

  **

 

 

( 2 )

لم تكنْ ( آديوخْ ) الحلوةُ تَفْخَر بنفسِها، و لم تكن مُدَّعيةً على الإِطلاقِ، بل إنها لم تذكرِ الكثيرَ من الأُمورِ التي كانت تصنعُها من أجلِ عودةِ ( مارجْ ).

عندما كانتْ ( آديوخ ) تمدُّ ذراعَها من النَّافذةِ، كانت صفوفُ الغمامِ الأسودِ الكثيفِ المحَمَّلةِ بالمطرِ تتدافعُ بعيداً لتستريحَ في زاويةٍ من السَّماءِ.

و كانتْ، فجأةً، تلتمعُ حُزْمةٌ من الضَّوءِ تمحو الظَّلامَ، فترتعشُ الظِّلالُ في المكانِ، و ينتشرُ الفَرَحُ في الأَشجارِ و الأَغصانِ و الأوراقِ و في قلبِ ( مارجْ ) العابرِ تحتِ الضَّوءِ، ضوءِ ( آديوخ )، و الذي تطفئُهُ خلفَهُ حتى لا يراه أعداؤُهُ.

 و يستيقظُ القمرُ ...

و يضيءُ جِسْرَ الكَتَّانِ الذي تَنْشُره خِصِّيصاً كي يعبرَ فوقَهُ بقطيع الخيلِ الذي قد يكونُ الحصانُ المجَنَّحُ أحدَها، ثم لا تلبَثُ أن تخطِفَ هذا الجسرَ لئلاَّ يسقط زوجُها في يدِ أعدائِهِ الذين طاردوهُ.

و توقِفُ أَنينَ الرِّياحِ و هديرَ الموْجِ و ارتجافَ الأَشْجارِ و زئيرَ العاصفةِ و خَوْفَ العتمةِ و صُراخَ الخمائلِ، فإذا بذَهَبِ الشَّمسِ ينتشرُ على رداءِ الأرضِ، و إذا بالأُغنيةِ تردِّدُها أَشجارُ الغاباتِ و الطُّيورُ المُغرِّدَةُ و الزُّهورُ و النَّدى و الفراشاتُ و النَّحلُ بطنينه الموسيقيِّ الأَخّاذِ.

و تقفُ كلُّها، تغنِّي مع ( آديوخ )  عندَ بابِ ساحة الكوخِ للعودةِ المرْتَقَبَةِ.

و يخِفُّ الإِيقاعُ، يخفُّ عند اقترابِ وقعِ أقدامِ ذلكَ المسافرِ العائدِ. و عند عودتِهِ، يغنّي الكُلُّ، الكُلُّ، الكُلُّ :

 

أَمْضَيْنا النَّهارْ

نُغنِّي الانْتِظارْ

 

فيضحكُ الفارسُ ( مارجْ ) ضحكةً عاليةً، و يرفَعْ كتفيهِ غيرَ مُهتَمٍّ :

 _ لم أطلب منكم الانتظارْ !

فيندهشُ الكلُّ، و أولهم ( آديوخْ ).

ويفترقونَ… وتبقى.

ويبتعدونَ… وتبقى!

( 3 )

 و قُربَ النَّار، يردّدُ لزوجتِهِ الجميلةِ :

لا أُحِبُّ الانتطارْ

إِنَّهُ فعلُ انْكِسارْ

لا أُحِبُّ الانتظارْ

إِنَّه فعلُ الصِّغارْ

***

ما تفعلينَ ؟

ما تفعلينْ ؟

تُمْضينَ حياةً سلبيّةْ

قربَ النَّافذةِ تنتظرينْ ؟

***

 

 

 آهْ !

شهقَتْ ( آديوخ ) الحلوةُ و هي تتأمّلُ زوجَها الجالسَ يأكلُ قربَ النَّارِ المشتعلةِ طعامَ ( الشِّبس _ باستَه )، و فطائرَ ( الحَلّفَة ) الشَّهِيَّةَ السَّاخنةَ و يصبُّ الشَّايَ كالعقيقِ.

_ آهْ !

شهقَتْ ( آديوخْ )، و نظرتْ بعينينِ مُتَفَحِّصتين إلى قسماتِ وجهِهِ، محاولةً أن تكتشفَ أنّه يُمازحُها و يلهو كما يفعلُ المحِبُّون مع محبوباتِهم؛ لكنَّه ما كان يفعلُ هذا.

لقد كان جادّاً جدّاً !

و راحَ يرتشفُ الشَّايَ و ينفخ صدرَهُ، فتلمعُ عيناهُ السوداوانِ الواسعتانِ لمعاناً غريباً عجيباً، و قالَ :

_  يا آديوخْ الحلوةُ المنتظرةُ على النَّافذةِ عودةَ البطلِ.. أَتعرفين ما يقالُ عني في بلادِ العمالقةِ ؟ يقالُ : ذاكَ النَّارتيُّ الذي لا يُضِلُّ طريقَهُ و كأنَّ النُّورَ يرافِقُه. و لا يعرفونَ _  يا آديوخ  _ أنَّ البطولةَ هي النُّورُ !

 أَصْغَتْ ( آديوخ ) إلى زوجِها الذي تابعَ نافخاً صدرَهُ أكثرَ فأكثرَ :

_  و تعرفينَ ما يُقالُ عنّي في بلادِ الأقزامِ ؟ يُقالُ : ذاكَ النَّارتيُّ الذي يَعبُرُ نهرَ ( يَنْججْ ) و لا يقدرُ أحدٌ على اللَّحاقِ به، و كأنَّ طريقاً يُفتَحُ أمامه و يُغلَقُ بعدَه. و لا يعرفونَ _ يا آديوخْ _ أنَّ البطولةَ هي الطَّريقُ !

و تركَ مكانَهُ، و راح يَصفِرُ لحناً و يدور حول نفسِهِ راقصاً رقصةَ ( الشِّشانْ ) البطوليّةَ حتى غلبَهُ الحماسُ فاسْتَدْعاها لترقُصَ معه، لكنها كانت ترقصُ ببطءٍ.

توقّفَ فجأةً !

 كان وجهُهُ قريباً من وجهِها، و كأنه أرادَ أن يقولَ أهمَّ جُملةٍ في العالمِ :

_  إنَّ ما يقولُه النَّارتيونَ صحيحٌ : فـ ( مَنْ يطلبِ البطولاتِ يستطيعُ قهرَ كلِّ الصُّعوباتِ ) .

  أبعدَتْ رأسها عنه تقول بِتَحَدٍّ :

_  كيفَ لشخصٍ لم يصادفِ الشّدائدَ أن يعتبرَ نفسَهُ شجاعاً ؟

و كادَ يُجَنُّ لما سمعَ قولها، فاحمرَّتْ عيناهُ و علا صوتُهُ هادراً :

ـ اسألي العمالقةَ، اسألي الأَقزامَ، فهم يرتعدونَ خوفاً من مجيئي، و يحسبون لي ألف حسابٍ.

انسحبَتْ ( آديوخْ ) و جلست بعيداً عنه، و قد بلغَ الاستياءُ منها مبلغاً.

حاولتْ أن تصمُتَ لكنها لم تقدر، فقالتْ :

 _ ليس مِن أخلاقِ النَّارتيينَ أن يقفوا في وجهِ امرأةٍ و يَكيلوا المدائحَ لأنفسِهمْ.

_ أنا أقولُ الحقيقةَ !

_ الحقيقةُ تتحوّلُ إلى مَكْرٍ عندما تتناسى آلامَ الآخرين و كفاحَهمْ.

_ عندما أتألّمُ، أتألّمُ وحدي، و عندما أغزو أغزو وحدي، و عندما أُلاقي الصُّعوبات و أتغلّبُ عليها كذلك أكونُ وحدي.

_ الإِنسانُ الحقيقيُّ يعيشُ بصيغةِ الجمعِ...

_  إنْ كان حولَهُ مِنْ جمعٍ...

 غضبَتْ آديوخ :

_  لا تنسَ اسمَ شريكتِكَ.

غضبَ كثيراً، ثم ضحكَ هازئاً :

_  شريكتي ؟ شريكتي المنتظرةُ على النَّافذةِ ؟ أين تكون عندما أغزو بلادَ العمالقةِ و أعودُ فلا أضلُّ طريقي ؟ أين تكون عندما أعبرُ نهر ( يَنْجج ) بِخَيْلي ؟ أين تكونُ عندما….

قاطعتْه بثقةٍ و بحزمٍ :

_ تكونُ معكَ.

_ تكونُ على النَّافذةِ.

_  لماذا لا تحاولُ أن تعرفَ نفسكَ يا ( مارجْ ) ؟

_ أعرفُ نفسي ! أنا الفارسُ المُناوِرُ، أنا البطلُ الشُّجاعُ.

_  يستحيلُ عليكَ أن تكونَ متغطرساً إذا ما عَرَفتَ نفسَكَ جيداً.

 _ لستُ متغطرساً.

دارتْ حولَهُ مرتينِ، ثم قابلتْهُ وجهاً لوجهٍ :

_ متغطرسٌ و مظهرُكَ مضحكٌ، مظهرُ الاكتفاءِ و الكبرياءِ، مظهرُ الإنسانِ المدَّعي إِتقانَ كلِّ شيءٍ و معرفةَ كلِّ شيءٍ.

_ لستُ مُتَغطرساً و لستُ مدّعياً.

_ كثيرٌ من البشر كانوا أضحوا أَبطالاً لو لم يتصوروا أنهم أبطالٌ.

_ آديوخ الجميلةُ تتحول إلى شرسةٍ سليطةِ اللِّسانِ.

_ ليس من عادتي أن أُنكرَ فضائلَ رجلٍ.

_  لكنكِ تفعلينَ.

_  كفاكَ أنانيةً يا ( مارجْ )، فما زلتَ بحاجة إلى الخبرةِ و الألم و تخطِّي الصُّعوباتِ. أنتَ يا ( مارجْ ) إنسانٌ أنانيٌّ، إنسانٌ يعبدُ نفسَه، إَنسانٌ مُغْلَقٌ، مُغْلَقٌ.

_ أنا مَنْ يُضرَبُ المثلُ بشجاعتي.

_ يستحيلُ الحوارُ مع كائن مُغْلَقٍ على نفسِهِ، مُكْتَفٍ بذاتِهِ و أفكارِهِ و حقيقتِه.

_ كلامٌ سخيفٌ.

_ يصعُب عليّ أن أؤمن بإنسانٍ ما تألمَ أبداً، ما واجَه المصاعبَ و لا المعاكساتِ و لا خيباتِ الأملِ؛ أينَ تكون إنسانيّتُهُ إذنْ ؟

 

( 4 )

عندما قالتْ آديوخْ ذلك، قفزَ من مكانِهِ و ذهب فأسرجَ حصانَهُ ثم امتطاه غاضباً. و لما وصلَ إلى البوابةِ، التفتَ إليها قائلاً :

_ حسناً ! سأُريكِ إلى أين تصلُ شجاعتي و عظَمتي !

 و انطلقَ يعدو و يقفزُ مِن دون أن يعرف للتَّعَبِ معنى.

 و كان _ لشدّةِ غضبِه _ يفرغُ غِلَّهُ على حصانِهِ الذي لم يقترف ذنباً. و تابعَ مسيرتَهُ قفزاً و عَدْواً و هو يضربُهُ بسوطِهِ النُّحاسيِّ ضرباً مؤلمـاً يحثُّه على السَّيْرِ إلى بلاد العمالقةِ و الحصان يسير ببطءٍ متوجعاً.

 و ما إِنْ دخلَ ( مارجْ ) بلادَ العمالقةِ، حتى أَعْتَمتِ الدُّنيا و بدأت السّماءُ تمطرُ فلم يعد يستطيع أن يرى حتى أذنيّ حصانِه الذي يمتطيه. و لما شدَّ برنسَهُ الذي أحاكته له آديوخ قائلاً : " تعالَ احمِني يا برنسي "، بدأَ البرنسُ [ العباءة ] يدلِفُ بغزارةٍ.

و لو لم يقلْ : ( برنسي )، ما كان المطرُ لينفذَ من خلالِهِ.

و عبثاً حاولَ أن يجدَ خيولاً يعودُ بها إلى بيتِه كالعادةِ، و كيف يجدُها، و كيف يراها و الظَّلامُ دامسٌ دامسٌ دامسٌ ؟

و راح يصرخُ بأعلى صوتِهِ :

_ أين الضَّوءُ ؟

  أين النُّورُ ؟

  لماذا لا يتوقفُ المطرُ و تتوقَّفُ العواصفُ ؟

  لماذا ؟

  لماذااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا ؟

  صرخَ، ثم غادر البلادَ إلى بلاد الأقزامِ ضارباً حصانَهُ بقوة.

 

 

( 5 )

هناك، كان الطَّقسُ مختلفًا تماماً : فالحرارة قويةٌ، و الشَّمسُ كأنها لهيبُ النَّار حتى إنَّ الحجارةَ كانت تَحمى و تتفتّتُ، و كانتِ الأرضَ تتشقّقُ، و رمالُ الصَّحراء تغطّي المكان و تدورُ… تدورُ… تدورُ…

 أحسَّ أن عينيهِ تمتلئانِ غباراً، فتوقّفَ وراءَ شجرةٍ، و هو ينادي برنسه :

_ خَبِّئْني يا برنسي من رملِ الصَّحراءِ وشمسِ الصَّحراءِ.

لكنَّ البرنسَ لم يَحمِهِ. و لو لم يقلُ : برنسي، ما كان الحرُّ و الرَّملُ لينفذا من خلاله.

و عبثًا حاولَ ( مارجْ ) أن يجدَ ماءً.

و كيف يجدُ الماءَ في هذه الزّوابعِ الرَّمليّةِ و هذه الصَّحراءِ ؟

و راحَ يصرخُ و حلقُهُ يكادُ يتشقّقُ من شدةِ الجفافِ :

_ أين هدوءُ العواصفِ ؟

 أين الماءُ الباردُ ؟

 لماذا لا تتوقفُ العواصفُ و تخفف الشَّمسُ حرَّها ؟

 لماذا ؟

 لماذاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا ؟

 صرخَ كالمجنونِ، و غادرَ البلاد مشياً على الأقدامِ مِن دون أن يُوَفَّقَ بالحصول على حصانٍ واحدٍ.

 حصانٍ واحدٍ ؟ هِئْ...

حتى حصانه فقدَهُ !!!

( 6 )

و عندما اقتربَ من ساحل النَّهر، نادى من تحتُ بأعلى صوتِهِ :

_ يا آديوخْ !

   يا آديوخْ !

إنكِ بجبروتكِ هذا لن تُؤذيني، فقد عدتُ رغمَ كلِّ المصاعبِ.

عدتُ لأريكِ أنني لا أموتُ مِن دونِكِ..

و راح يضحكُ كالمجنونِ، ثم راحَ يسبحُ في النَّهرِ و قد بدأتْ تتقاذفُه الأمواجُ مِن دون أن يرى أثراً لجسرٍ. لكن جسدَهُ القويَّ ساعدَهُ على أن يعبرَ النّهرَ و يلقي نفسه على الجانب الآخر من الشَّاطئِ و ينادي بأعلى صوته :

_ أرأيتِ يا شريكتي ؟

ثم راح يسعلُ، و يسعلُ، و يسعلُ… و عندما لمحَ طيفَها وراءَ النَّافذة يقف مُطأطئَ الرأسِ، ناداها و هو يتسلّقُ الجبلَ :

ـ لعلّكِ تعرفين الآن أنَّ ما قلتُهُ عن نفسي كان صحيحاً، و لعلَّ عودتي سالمـاً تعلّمُكِ درساً.

 لكنَّ…

 الطَّيفَ…

 اختفى !!!

( 7 )

حين وصلَ إلى بوابةِ الكوخِ، كانت ( آديوخْ ) قد غادرَتْه للتَّوِّ، لأنها انتظرتْ، حتى اللَّحظةِ الأخيرةِ، أن يكون ( مارجْ ) بطلاً حقيقياً، فلم يكنْ.

رجَتْ أن يكون إنساناً حقيقياً، فلم يكنْ.

(8)

هل عرف ( مارجْ ) أنه خسر ( آديوخْ ) التي أحبّتْهُ ؟

هل يعرف الإنسانُ الأنانيُّ مدى خسارتِهِ ؟

لو عرفَ…

ما بقيَ كوخُهُ ذاكَ بارداً، لا نارَ في موقدِه، و لا نور يشعُّ منه.

لو عرفَ...

ما بقيَ كوخُهُ ذاك شاحباً، تنبتُ على جدرانِه الأعشابُ الشائكةُ و تصفرُ فيه الرِّياحُ.

 

 

(9)

ذاتَ مرةٍ، بعد سنواتٍ طويلةٍ طويلةٍ، وقتَ صارَ ( مارجْ ) عجوزاً ذا لحيةٍ بيضاءَ كثَّةٍ طويلةٍ تغطي صدرَهُ الذي استحالَ إلى عظامٍ متقوسةٍ، و كانَ يجلسُ على مصطبةِ الكوخِ مُنحنياً على عُكَّازتِهِ، مُتخشّباً مثلَها و كأنهما صُنِعا مِن شجرةٍ عتيقةٍ واحدةٍ، مرَّ به طيفُ امرأةٍ جميلةٍ تشبهُ ( آديوخْ ).

فتحَ عينيهِ السَّوداوينِ على وسعِهِما و هو يستغربُ كيفَ احتفظتْ كلَّ هذه السَّنواتِ بجمالِها الأخّاذ و طَلَّتِها البهيَّةِ.

و لم يشأْ أن يتنازلَ فيسأَلَها عن سرِّ احتفاظِها بشبابِها و جمالِها؛ لكنها اقتربتْ منه، و انحنَتْ عليهِ قليلاً تسألُه :

_ هل علّمَكَ الفراقُ شيئاً ؟

و كالعادةِ، و مِن دونِ أن يفكرَ بجوابٍ يليقُ بسيدةٍ، قال بصَلَفٍ :

_  الفراقُ ؟ أيّ فراقٍ يا آديوخْ ؟ أَفترضُ أن الفراقَ عليهِ أن يعلِّمَ السَّيدةَ التي غادرَتْ بيتَ فارسِها البطلِ درساً، لا العكسَ !

و كعادتِها كلما سمعَتْ كلماتِهِ، شهقَتْ آديوخْ دهِشَةً، لكنها ما لبثَتْ أن ابتسمَتْ مُتراجعةً خطوةً إلى الخلفِ، تلتْها خطواتٌ ترافَقَتْ و اتساعَ ابتسامتِها التي تحولَتْ إلى ضحكةٍ خفيضَةٍ ترافقَتْ و صريرَ بابِ كوخِهِ الذي اصطفقَ فأخافَ كلبَهُ الأسودَ العجوزَ، فنبحَ خابطاً بذيلِهِ على الجدارِ العتيقِ؛ ما جعل ( مارجْ ) يلتفتُ إليهِ ثم إليها، فإذا بوجهِهِا الجميلِ قد ابتعدَ، فناداها بصوتٍ متهدِّجٍ غاضبٍ عالٍ :

_ آديوخْ !

آديوخْ !

و لما لم تتوقفْ ولم تردَّ، قال بصوتٍ أعلى :

_ لا تظني أن فراقَكِ أحزنَني !

و مِن دونِ أن تصلَ إلى سمعِهِ كلمةٌ واحدةٌ، تمتمَتْ و هي تجدُّ السَّيرَ مغادرةً المكانَ إلى غيرِ رجعةٍ :

_ لِلَحظةٍ ظننْتُ !

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

قد تقرأ أيضا