الارشيف / ثقافة و فن

يوميات عائلة مستورة - الحلقة الثانية

قصة قصيرة


يوميات عائلة مستورة


(2) الحلقة الثانية

 

كانت عائلة سعيد ( أبو زهير ) عائلة كبيرة و بالتالي كان حمله كبير و مسؤولياته أكبر ... و هو من تربّى على الدين و الأخلاق و يعلم تماماً واجباته و حقوقه كما أراد الله و كذلك زوجته ناجية ( أم زهير )، فقد كانا متكافئان اجتماعياً تماماً ... و متوافقان فكرياً و نفسياً ... و لذلك كان الهدوء و التفاهم و الانسجام في حياتهما الزوجية واضحاً ... فـأم زهير كما كان يدعوها زوجها أمام أولادها حفاظاً على مكانتها و مقامها كأم و إن كان اسمها ناجية أحبُّ إليه بكثير، و هو ما يدعوها به بينه و بينها، فقد تربّت على الإخلاص للزوج و التفاني و التضحية من أجله و من أجل أولاده ... لأنه ببساطة هو الرجل الوحيد بحياتها، و هو الحبيب و الأهل و المعيل ... فالاحترام و الود قائم ما قامت عنده ... تصبر عليه في كل أحواله و تمنحه حبِّها و عاطفتها و عيناها و أذناها عندما يتطلّب الموقف ذلك، لم تكن فائقة الجمال و لكنها كانت فائقة التربية و الأخلاق، نظيفة السريرة و القلب، تخاف الله مما جعلها أجمل الجميلات في عيني زوجها، فالجمال كما يقولون ينعكس من الداخل إلى الخارج ... ليس كفتيات الجيل الجديد الذي ليس لديه صبر و لا تضحية و لا حنان و لا عطاء، بل يريد أن يأخذ الكثير و يقدّم القليل ... للأسف، و يهتم بالجمال الخارجي و المظهر فحسب ( أُذكّر بأن لكل قاعدة استثناء ) ...

 

 

المهم ... كانوا أولادهم التسعة يتدرّجون بأعمارهم، و هم من الأكبر إلى الأصغر : زهير - خالدة - إيمان - ابتسام - موفق - هدى - صفاء - سامر - أميرة، بين الولد و الولد سنتين أو ثلاثة فقط ... هكذا كان نظام الأسر الشامية من حيث عدد الأولاد ... فـالأولاد نعمة و هدية من الله ... هو المفهوم السائد و ليس كما الآن نقمة و أعداء و تعب و شقاء و مسؤولية و هم ؟؟ ... ( و أيضاً أقول هنا لكل قاعدة استثناء )...... المهم كان أبو زهير حريصاً على نظام معيّن في حياته و يعطي كل ذي حقٍ حقه ... حسب إمكانياته و موارده و طاقته البشرية المحدودة طبعاً، فيضع كل قرش في مكانه و كل عاطفة في ظرفها، فهو لا يدلل أولاده على حساب القيم أبداً ... و لا يُظهر عواطفه إلا بالوقت و الظرف المناسب في مرض أو مشكلة أو ظلم وقع على أحد أولاده خارج البيت طبعاً و بالحق .... و كما قال الله تعالى فيما معناه " قل الحق و لو على نفسك " في الآية الكريمة من سورة النساء بسم الله الرحمن الرحيم : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)) ...

أما أم زهير، فكانت كالوعاء الكبير الذي يحتوي الجميع، هذا الوعاء المبطّن بطبقةٍ رقيقة و مخملية و حنونة و عاطفة لا يشبهها شيء في الكون كله .... كان لها نظاماً أيضاً في منزلها و جنّتها .... فهي تهتم بطعام كل فرد من عائلتها و بنظافته و راحته و سلامته من كل مرض أو شر، كانت قريبة و موجودة دائماً بالرغم من هذا العدد الكبير من الأولاد ... نظيفة و مرتبة و طبّاخة و خيّاطة من الدرجة الأولى .. كانت تستيقظ فجراً لتقوم بواجباتها الدينية على أكمل وجه، و من ثم تقوم لواجباتها المنزلية منذ الصباح الباكر لتحضّر للجميع وجبة فطور محترمة و متنوّعة ... و الفطور كان من الوجبات الأساسية على فكرة في المجتمع الدمشقي، فلم يكن يخرج أحد من منزله إلا و قد تناول وجبة فطوره ... و مع عائلته ليبدأ نهاره بدعاء أمه و أبيه و صحبة أخوته ....

 

 

الحب يشاركهم صباحهم و الأُلفة ترفرف عليهم، و لا يخلو الأمر من المزاح و السخرية أحياناً بين الأخوة و الأخوات، مما يضفي جو عائلي مرح محبب جداً، ثم تأتي فترة الغذاء و الاستعداد لها و من ثم فترة العشاء و السهرة و هكذا .... هذه طريقة حياة أم زهير التي تربّت عليها و تحب ممارستها كوظيفتها في الحياة .....

كان زهير الابن البكر... يمثّل الأب الثاني في البيت و لكن دون سلطة، فقط هو مرجع بعد الأب، و كانت هذه الطريقة تدرّب الشاب على حمل المسؤولية و تعلُّم الحكمة و المنطق مستقبلاً، و لكن بعيداً عن التدخُّل أو فرض و نهي أي أمر بوجود الأب و الأم ... إنما هو معين و مساعد لهما ... فكلما كبرت المسؤولية يحتاج الأمر لمساعدين و داعمين .... و هذا شيء طبيعي .... و كذلك كانت خالدة البنت الكبرى في العائلة و اليد اليمنى للأم ... و المساعدة و الوصيفة الأولى لها في تربية و مسؤولية أخواتها ....

في البداية كان التركيز على زهير و خالدة كبيراً عندما كانت العائلة صغيرة، و كلما كبرت العائلة ضعف التركيز ... و هذا شيء طبيعي أيضاً .... و مرّت الأيام على نفس الوتيرة و نفس العطاء و دونما تمييز، فالجميع كالواحد و الواحد كالجميع ... مع اختلاف الأعمار، فهناك من بدأ بالنضوج و انتهى من دراسته الجامعية، و منهم من كان بعمر المراهقة الفتيّة، و منهم ما زالوا أطفالاً صغاراً في المرحلة الابتدائية .... الكبير يساعد والديه و أخوته الصغار في الدراسة و غيرها.... و الصغير يحترم الكبير لدرجة الخوف مع المحبة الشديدة ... و كان الصغير يتلقّى ثياب و لوازم الكبير المدرسية و الغير مدرسية بكل رضا و دون أي تذمُّر، فهكذا كان النظام و انتهى. و بصراحة حتى العائلات الميسورة و المقتدرة مالياً لم يكن عندها إسراف و هدر للمادة أبداً، لأن المسرفين كانوا أخوان الشياطين، هكذا تعلّموا ببساطة، كانوا يخافون البطر كما يقولون - أي عدم تقدير للنعمة و التبذير فيها دون داع _... مع أنهم يكونون كرماء مع الضيف و الفقير و المسكين و عابر السبيل و يبدؤون بالأقربون ... ليس مثل الوقت الحاضر، يتركون القريب و يقطعون رحمهم و يذهبون للأبعد عنهم فالأبعد ... حتى يكتسبون السمعة الطيبة و الجاه بين الناس و المدح و الرياء .... متناسيين قول الله تعالى : الأقربون أولى بالمعروف .. ما علينا و نعود لقصتنا ... .. لم يكن هناك خادمات في بيت أبو زهير بالرغم من كبر البيت و العائلة .... بل كانت البنات تساعد أمها بكل تفاني و إخلاص و من كل قلب محب .... و كانت أم زهير تغتنم أوقات العطلات المدرسية و خاصةً عطلة الربيع الانتصافية و العطلة الصيفية و العطلات المتقطّعة ما بينهما من الأعياد الوطنية و غيرها ... لتقوم بأعمال التعزيل و المونة المستمرة و التي كانت لا تنقطع في أي بيت من البيوت الدمشقية ... الذي ما أن تدخله حتى تشعر بالراحة النفسية و الجسمية .... و تستنشق روائح النظافة مختلطة بروائح ألذ و أطيب الطعام من هذا البيت العريق و الخالد ..... و الذي كان لديه اكتفاء ذاتي.. فكل شيء مصنوع بمهارة و إتقان و بكل نظافة داخل المنزل ...

 

 

كانت العائلة كلها تتعاون لتسيير أمور البيت ... و خاصةً عائلة أبو زهير المحترمة .... و على فكرة قديماً كان الداخل إلى أحد الحارات الدمشقية ... لا يعلم باب الغني من باب الفقير ضمن الحارة الواحدة، فالباب الخارجي للمنزل المفتوح مباشرةً على الحارة باب صغير ينحني الداخل إليه مهما كانت مرتبته أو صفته أو مكانته الاجتماعية انحناء احترام و تقدير للبيت الدمشقي العربي القديم ... فـللبيت و العائلة الدمشقية قدسية و هيبة من نوعٍ خاص و منفرد ..... و خاصةً المرأة .... و أعيد و أقول خاصةً المرأة .... كان يُخاف عليها و تُحترم أشد الاحترام .... أما بعد الباب الخارجي للبيت هناك باب آخر كبير ... إما أن يكون و إما لا يكون ... و هنا يختلف الوضع بين العائلة الغنية و العائلة المستورة .... و لكن المبدأ السائد كان ... الناس كأسنان المشط أفضلهم عند الله أتقاهم ... و أخوفهم من الله، و تكاد هذه الآية الكريمة متمثلة في كل بيت شامي : رأس الحكمة مخافة الله ......

 

 

و كَبِرَ أولاد أبو زهير شيئاً فشيئاً .... و كبرت متطلّباتهم ...... و بدأ المجتمع يخلع أثوابه القديمة من حولهم و يرتدي أثواباً غريبة عنهم ... لأول مرة يشاهدونها ..... مبهرة مبهرجة ..... دخلت لكل بيت في الشام .... التلفزيون .... و الراديو .... ثم جهاز الفيديو .... ثم الصحون الفضائية ... و الستالايتات .... و الأقنية الفضائية .... و الهواتف الجوّالة .... و من ثم الوقوع في هاوية الاستهلاك .... و تحت رحمة شركات الإعلان الكبرى ..... و من يراقب بدقّة و وعي يجد أنها احتلال من نوع ذكي جداً ... و هيمنة اقتصادية و اجتماعية و سيطرة كاملة على مجتمع بأكمله، و من الملاحظ تماماً أنه و لا جهاز من الأجهزة السابقة اخترع في سوريا، أو حتى أنتج فيها أو يقومون بإنتاجه حتى تحت رعاية الشركة المصنِّعة ؟؟؟؟ ... لا يريدون أن نتعلّم بل يريدون أن نستهلك فقط ...!! و لا حتى البرامج التي تبث فيه ليلاً نهاراً و تسقي الأجيال سموماً تأتي من الخارج ... كان من الممكن لهذا المجتمع أن يكون في مصاف الدول الكبرى و المنتجة كـماليزيا مثلاً التي أصبحت من نمور آسيا كما هو معلوم ؟ .... و لكن اختلفت المقادير و الأقدار ..... و لم يكن المجتمع الدمشقي محضّراً بما فيه الكفاية لتلقّي هذا الكم الكبير من الهجوم الإعلامي و الإعلاني، طبعاً لا أحد يرفض التقدُّم و التطوّر و الحضارة، و لكن كيف تناول المجتمع الدمشقي بشكلٍ خاص و المجتمع السوري بشكلٍ عام هذه الحضارة ..... سنعرف من أبو زهير و أم زهير ...... في الحلقة القادمة


يتبع 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

قد تقرأ أيضا