الارشيف / ثقافة و فن

أمينة .. ليست أمينة !

 

سأحدثكم في هذه القصة عن أمينة..

أمينة امرأةٌ في العِقد الرابع من عمرها، متزوجةٌ و لديها ثلاثة أولاد.. تصلي وتصوم وتتلو القرآن الكريم وتلبس اللباس الإسلامي.. ولكنها لا تملك من الأمانة ما يتناسب مع اسمها.. فهي رغم بساطتها وطيبة قلبها امرأةٌ ثرثارةٌ، تخوض في أعراض الناس بالغيبة، وتمشي بينهم بالنميمة، وكما يقولون باختصار: لسانها متبرئٌ منها.

أمينة ترى أن ذكر عيوبِ الناس والتعرضَ لمساوئهم ليس هو الغيبةَ المحرّمة، والمحرَّم في رأيها هو فقط الافتئات على الناس ووصفُهم بما ليس فيهم!

في كل جَلسةٍ نسويةٍ توجد فيها أمينة يتمّ غربلة الناس بالغربال: هذه قصيرة.. وهذه طويلة.. فلانة غبية.. وفلانة سهيانة.. هذا مغضوب.. وهذا مقصّر.. هذه فقيرة.. وتلك فوضوية.. لباس فلانة قديم.. ولباس فلانة مُشرشَح.. بيت فلانة صغير.. وبيت فلانة وسخ.. زوج فلانة صائع وضائع، وزوج علتانة يكرهها ويشتمها..

ويمكن لمن يمرُّ بجانب البيت الذي تتواجد فيه أمينة أن يسمع صدى الضحكات النسائية من مسافة أمتار..

 

 

في الحقيقة فات أمينةَ أن تعرف أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه مرّة: أتدرون ما الغيبة؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: ذِكرُكَ أخاك بما يكره. فقيل له: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟! فقال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبتَه، وإن لم يكن فيه فقد بهَّتَّه! أي: افتريتَ عليه الكذب. (أخرجه مسلم).

                    *            *            *

لأمينة علَّةٌ أخرى غير الغيبة!

فهي تنقل الكلام بين الناس، أي: تمشي بين الناس بالنميمة، فتقول لمازن: سمعتُ أحمد يسبُّكَ! وتقول لمحمود: قال عنك ماجد إنك غبي! وتقول لأمِّ رياض: سمعتُ أمَّ حميد وهي تقول لأمِّ سعيد: إنَّ ابنتكِ (جميلة) ليست جميلة، وكان يجب أن تسمّيَها (قبيحة) ليكون اسمُها على جسمها!

لا ينسى ( أبو ماهر ) ابنُ عمِّ أمينة المشكلةَ التي أشعلتها أمينةُ بينه وبين زوجته، عندما نقلت إليه ما قالته زوجته لصديقاتها عن بخله وسذاجته..

يومها عاد إلى بيته مشحوناً بالغضب ودماؤه تغلي في عروقه، فاستقبلته زوجته هناء مرحبةً مهلّلةً كعادتها، ولكنه شتمها ولعن الساعة التي جمعت بينه وبينها..

فوجئت هناء بغضب زوجها وهياجه، ولم تفهم له سبباً، ونشبت بين الزوجين مشكلةٌ كبيرةٌ، ولم يستطيعا حلَّها إلا بعد أيامٍ من العكر والخصامِ وتدخُّل الأهل والأحباب!

جهود ( أمينة ) هذه في النميمة وتوصيلِ ما قاله فلان عن علتان، وما قالته علتانة عن فلانة، أدّت إلى خراب البيوت العامرة والصداقات النافعة..

 

                       *             *             *

يشتكي زوجُ أمينة من انشغال زوجته عنه وعن أولاده.. فهي مشغولة دائماً بالحديث مع الصديقات والجارات، إما على الهاتف أو في زياراتٍ شخصية..

ويشتكي أيضاً من ثرثرتها ولتِّها وعَجنِها، ويلومها كلما اغتابت أو نمَّت، فهو لا يحب هذا الطبع المقيت.. ولكنَّ أمينة ترى أن في شكوى زوجها من تصرفاتها تدخلاً غير مبررٍ في شؤونها الشخصية، فهي ترى أنَّ ما تفعلُه ضروريٌ جداً للمصلحة العامة، فهي تكشف الحقائق وتعرّي الناس أمام بعضهم البعض، كي لا يكون لهم وجهان ولسانان! فهي تكره ذا الوجهين واللسانين.. ولذلك لابد من التضحية في سبيل كشف المستخبَّا !

وعندما يواجهها أحدهم محذِّراً إياها من الوقوع في النميمة المحرّمة تقول: أنا لا أَنُمّ.. أنا أنقل الكلام بحذافيره بأمانةٍ.. فأنا أمينة.. واسمي على جسمي! أنا أنبِّه فلاناً من فلان، وأكشف لفلانةٍ ما تقوله عنها فلانةٌ من وراء ظهرها..

وإذا صادف أن نعت أحدهم أمينة بالنمّامة، دافعت عن نفسها قائلة: ماذا أفعل إذا سألتني فلانةُ عمّا قالته عنها جارتها فلانة؟ هل تريدون مني أن أكذب؟! طبعاً لا.. لن أكذب، فالكذب من الأمور الممقوتة المرذولة.. وأنا أحب الصدق، ولذلك أجيب عن أيّ سؤالٍ بصدقٍ وإخلاص.

لربما فات أمينة أيضاً أن تعلم أنَّ الكذب في سبيل الإصلاح أمر جائز في الإسلام !!

 

 

                          *                *                *

على الرغم من أن أمينة إنسانةٌ اجتماعيةٌ ودودةٌ ووفيّةٌ لصديقاتها، وعندما تقصدها إحداهنّ بخدمةٍ تتفانى في أدائها، إلا أنها تظل تشتكي من فقدانها للخلّ الوفي..

صحيحٌ أن جاراتِها وصديقاتِها يستمتعن بجَلستها المرحة، ويصفنها بأنها خفيفةُ الظل، وتزيل الهمَّ من القلب، إلا أنهم يحصرون صداقتهم معها في نطاقٍ ضيقٍ، ولا يطوّرونها أبداً إلى صداقةٍ حقيقية !

تشعر أمينة أنَّ جاراتها يتعاملن معها بحذرٍ وانتباه، وأن هناك أموراً تجري من وراء الكواليس، دون أن تدريَ أمينةُ عنها شيئاً.. وهذا أمرٌ يغيظها ويزعجها.. وهي لا تعرف سبب هذا كلِّه.. فهل عرفتم أنتم إخوتي وأخواتي القرّاء السبب؟!

السبب هو أنَّ القاعدة الشائعة تقول: من يغتاب الناس أمامك يغتابك أمامَهم، ومن يوصل كلام الناس إليك يوصل كلامك إليهم.

 

                       *             *             *

يحكى أنَّ أحدهم حضر مجلساً للخليفة الصالح عمرَ بنِ عبد العزيز، فذكر له مقالة سوءٍ قالها أحدُهم عنه، فقال له عمر: إن كنتَ صادقاً فأنت نمَّامٌ، وأنت من أهل قوله تعالى: ( همازٍ مشَّاءٍ بنميم )، وإن كنت كاذباً فأنت فاسقٌ، وأنت من أهل قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبينوا )، فإن شئتَ فاعتزل مجلسنا، وإن شئتَ عفونا عنك على أن لا تعود لمثلها أبداً.

فقال الرجل: العفوَ يا أمير المؤمنين.. ولن أعود لمثلها أبداً.

*             *             *

يقول الشاعر:

من نمّ في الناس لم تؤمَن عقاربُهُ          

على الصديق ولم تؤمَن أفاعيهِ

كالسيل في الليل لا يدري به أحدٌ          

        من أين جاء ولا من أين يأتيهِ

الويل للعهد منه كيف ينقضهُ                 

والويل للوُدّ منه كيف يُفنيهِ

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

قد تقرأ أيضا