الارشيف / ثقافة و فن

بهيج و بهيجة

قصتنا هذه تتحدث عن الأخوين بهيج وبهيجة.

بهيج وبهيجة توأمٌ غير حقيقي.. أي: توأمٌ بمشيمتين..

من يرى بهيج وبهيجة لا يعرف أنهما توأم.. فهما مختلفان في كل شيءٍ، ولا يجمع بينهما إلا تشابه الأسماء..

بهيجة فتاةٌ سمراء اللون، ملساء الشعر، ممشوقة القدّ، دمثة الأخلاق، حلوة المبسم، لطيفة المعشر.

أما بهيج فأبيض اللون، مجعَّد الشعر، قصير القامة، شرس الأخلاق، يحب المشاكسة، ولا يحسن التعامل مع الناس ولا التوددَ إليهم..

لم تكن علاقة الأخوين متينةً بسبب سوء طباع بهيج.. ورغم ما كانت تبذله بهيجةُ لتوطيد هذه العلاقة، إلا أن جهودها كانت تبوء بالفشل.

مضى الزمان، وتزوج بهيج من امرأةٍ حسناءِ الشكل، ولكنها حقودةٌ حسودةٌ، لا يعرف الحب والتسامح إلى قلبها سبيلاً.

أما بهيجةُ فتزوجت رجلاً اسمه موفق، وكان يشبهها خلقاً وديناً وطباعاً.. وكما يقال في المثل: إنَّ الطيور على أشكالها تقعُ..

لم تفلح محاولاتُ بهيجة وزوجِها في رأب الصدع ولمّ شمل العائلة.. وازداد الأمر سوءاً حين توفي والد بهيج وبهيجة، ودبّ الخلاف والخصام بين الأخوين حول الميراث.

فقد حاول بهيج وزوجته لملمة التركة، وحرمانَ بهيجة من حصتها في متجر والدها، بحجة أنه أحقُ به منها، لأنه كان يساعد والده في العمل منذ أن كان صغيراً..

كما ادّعى أن المنزل الذي يقطنه، والسيارةَ التي يركبها، هما من كدّ يمينه وعرق جبينه، مع أن الحقيقة التي يعرفها الجميع هي أنَّ والده اشترى له ذلك، على أن يُحسبا من حصته في التركة..

لم يُبقِ بهيج لبهيجة سوى قطعة أرضٍ نائية، لا تسمن ولا تغني من جوع، وليس لها راغبٌ في بيعٍ أو شراء!

آلم ذلك بهيجةَ، وقررت أن تحصل على حقها مهما كان الثمن، فحصل بينها وبين أخيها جفوة وشبه قطيعة..

 

                           *             *             *

لكنَّ موفق، زوجَ بهيجة، لم يقبل أن تقول زوجته: (أريد الحصول على حقي مهما كان الثمن)، فمشكلتها مع أخيها، وليس من المعقول أن يتقاطع الأَخوانِ من أجل المال، والحقُّ أولى أن يرجع إليه الطرفان.. فشجّعها على زيارة أخيها ومناصحته بالحكمة والموعظة الحسنة..

استجابت بهيجةُ لنصيحة زوجها، فذهبت إلى أخيها تستعطفه وتستحلفه بالله تعالى أن يراعي حقوق الأخوّة، وأن يلتزم شرع الله في القسمة..

بكت بهيجة أمام أخيها.. وأخبرته أنها تنام كلَّ يومٍ بعد أن تبلّل وسادتها بدموعها شوقاً إليه وحزناً على فراقه!

كاد بهيج أن يلينَ أمام دموع أخته وصدقها ومحبتها، وحرصها على إزالة ما بينهما من خلاف..

لكنَّ ذلك لم يعجب زوجته أم جميل، التي قررت أن تلعب نفس دور أمِّ جميلٍ حمّالةِ الحطب، فقادت زوجها إلى غرفة النوم، وبدأت تهاجم بهيجة، وتنفخ النار بين الأخوين..

ذكّرته بأنه الأَوْلى بثروة أبيه، وبأنَّ المال لا يجوز أن يذهب إلى الصهر الغريب، وبأنه رجلٌ، ولا يجوز أن يتراخى الرجل أو يضعف أمام دموع النساء..

أفسدت أم جميلٍ على بهيجة ما قدمت من أجله، فخرجت من بيت أخيها شبهَ مطرودةٍ، وهي تجرّ أذيال الخيبة..

لكنَّها لم تيأس.. وحسب رأيها ورأي زوجها فإنَّ الحفاظ على الأخوّة والسعيَ لاستعادة الحقوق، بحاجةٍ إلى صبرٍ ومصابرة ومثابرة..

وسّطت أبناءَ الخير ومن لهم كلمةٌ مسموعةٌ عند أخيها، ولكن.. لا فائدة..

وعندما باءت كلُّ جهودها بالفشل، أعلنت بهيجة عجزها واستسلامها.. فالشرّ المتأصّل في نفس أخيها وزوجِته أعمقُ وأقسى على ما يبدو من الخير المزروع في داخلها، فقررت أن تنسى أن لها أخاً اسمه بهيج.. وأعلنت هذا أمام زوجها، فماذا كان موقف زوجها موفق؟!

 

                   *             *             *

لم يصطد موفق في الماء العكر، ولم ينفح في الكير كما يفعلُ بعضُ الأزواج.. فهو يعرف أنَّ علاقة الأخوَّة يجب أن تكون أقوى من عوامل الزمان.. لأنها علاقةٌ قدَّسها الإسلام، ولا يجوز قطعُها لأي سببٍ كان..

قال موفق لزوجته: ما تفعلينه هو قطيعةٌ للرحم، وهذا لا يجوز.. ألم تسمعي قول الله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام)؟!

ألم تسمعي قول النبي صلى الله عليه وسلم: الرحم معلقةٌ في العرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله! متفق عليه

 كانت بهيجة تستمع لنصائح زوجها بآذانٍ صاغيةٍ وقلبٍ منفتح..

بعد أن أنهى موفق كلامه، اتجه إلى غرفة النوم، ثم خرج بعد دقائقَ وبيده كيسٌ أنيقٌ، أعطاه لزوجته وهو يقول: اذهبي بهذه الهدية إلى أخيك.. قبِّليه وقولي له: أنت أغلى عندي من مال الدنيا.. سامحك الله في الدنيا والآخرة.. خذ روحي إن شئتَ، فهي رخيصةٌ مقابل أخوّتنا وعلاقتنا!

فتحت بهيجة الكيس، وأخرجت الهدية: إنها عباءةٌ بيضاء جميلة..

استجابت بهيجة لرأي زوجها، فحملت الهدية واتجهت إلى بيت أخيها وقد اشتد اضطرابها، وتزاحمت في رأسها أسئلةٌ كثيرة:

- هل سيحسن استقبالي؟

- هل سيقبل هديتي؟

- هل سيفتح قلبه لي ويشعر أنني أخته من لحمه ودمه؟

- ماذا سيكون موقف زوجته؟

دقائق قليلة وستعرف بهيجةُ أجوبةَ كلِّ تلك الأسئلة..

 

                       *             *             *

طرقت الباب..

فتحت أمُّ جميلٍ زوجةُ أخيها..

قالت بهيجة: السلام عليكم.. مرحباً..  

قطّبت أم جميل جبينها، وأجابتها باقتضابٍ وحزم: أهلاً.. بهيج ليس في البيت.. وأنا عندي ضيوف.. أنا آسفة!

قبل أن تستدير بهيجةُ راجعةً من حيث أتت، لمحت ابن أخيها الصغير جميل، وسمعت صوت أخيها يعلو من الداخل متسائلاً: من بالباب يا أم جميل؟

أجابته وهي تصفق الباب بلؤمٍ ووقاحةٍ: لا أحد.. متسولٌ يطلب الصدقة..

نزلت بهيجة الدرج والدموع تملأ مآقيها..

تخيلت أخاها ينزل الدرج حافياً لاسترضائها.. تريثت قليلاً قبل أن تغادر المكان، عسى أن ينقلب ما تخيَّلته إلى حقيقةٍ.. لكنَّ شيئاً من ذلك لم يحدث.. فعادت أدراجها، وهي تبكي أخاها الذي فقدته وهو على قيد الحياة..

 

*   *   *

ذات يومٍ خطر في بال بهيجٍ أن يصليَ الجمعة في المسجد..

لم يفعل بهيجٌ ذلك منذ زمنٍ بعيد..

لماذا فعله الآن؟! الله أعلم!

ربما لفحته نفحةٌ ربانيةٌ لتحمل له خيرَي الدنيا والآخرة، وقديماً قال الشاعر الحكيم:

إذا هبَّت رياحك فاغتنمها              فإنَّ لكلِّ خافقةٍ سكونا

لن ينسى بهيج كلمات الإمام أبداً، فقد حوّلت مجرى حياته إلى أن توفاه الله..

قال الإمام:

- أنت أخي المسلم لن تنال رضا الله وغفرَانَه ما دامت بينك وبين أحد أرحامك قطيعة.. إنَّ الله لا ينظر إلى قاطع الرحم ولا يكلّمه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنةَ قاطعُ رحم). رواه مسلم

لطالما سمع بهيج هذا الكلام من قبل فلم يكترث له، ولكنه اليوم لا يدري ماذا دهاه..  فقد خفق قلبه بشدةٍ.. واعتراه خشوعٌ جليلٌ مهيب!!

خرج من المسجد ودموعُه تجلّل وجهه..

توجه إلى بيت أخته.. طرق الباب وبيده باقةٌ من الورد، وبطاقةٌ صغيرةٌ كتب فيها: سامحيني يا بهيجة..

 لم تصدق بهيجةُ عينيها: بهيج بشحمه ولحمه!

ألجمتها المفاجأة عن الكلام..

أعطاها الباقة والبطاقة.. أمسكت الورد بيدٍ مرتجفةٍ، وقرأت البطاقة بعينين زائغتين..

فتح ذراعيه لها، فاستسلمت لهما وهي تشهق من البكاء..

تمازجت دموعُه ودموعُها.. وهمس في أذنها بمحبةٍ وحنان:

- أنت أختي، وأنت أغلى من مال الدنيا.. سأعيد إليك حقك بالطريقة التي ترضيكِ، وسأضيف عليه من حقي ما يُشعرني بأني غسلتُ آثار آثامي وظلمي..

وقف موفق زوجُ بهيجة ينظر إليهما بفرح وهو يقول: لا يصحُ إلا الصحيح.. الدم لا ينقلب إلى ماء.. الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل..

بهذا التصرف النبيل قلع بهيجٌ عيني شيطانِه، وتركه مغتاظاً يلعن حظه العاثر..

 

                              *             *             *

يقول الشاعر:

لا تظلمنَّ إذا ما كنتَ مقتدراً       فالظلم آخره يأتيك بالندمِ

تنام عينُك والمظلومُ منتبهٌ          يدعو عليك وعينُ الله لم تنمِ

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

قد تقرأ أيضا