ضمن عروض مبادرة زاوية في مدينة القاهرة، عرض الفيلم الأخير للمخرج الأميركي جيم جارموش "Only Lovers Left Alive" الذي شارك العام الماضي في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي، وترشح لجائزة السعفة الذهبية، والذي عاني جارموش لعدة سنوات حتى استطاع الحصول على تمويل له بسبب حداثة التجربة الفنية المقدمة في الفيلم التي وصفها في أحد حواراته الصحافية بأنها "قصة حب ملغزة بين مصاصي دماء".
في فيلمه هذا، يمزج جارموش بين عدة تصنيفات سينمائية في قالب واحد، لكنه في ذات الذات ينزع عن كل تصنيف يستخدمه الإطار الأول الذي خرج منه هذا التصنيف، لتكون النتيجة شيء جديد بالكلية ولا يشبه أي مما شاهدته سابقًا، فهو يأخذ من أفلام الرعب واحدة من أكثر الثيمات التي تم استهلاكها، وهى ثيمة مصاصي الدماء، نازعًا إياها من سياقها الأول، ومازجًا لها مع ثيمة "ما بعد القيامة" التي اعتمدت عليها أفلام الخيال العلمي كثيرًا، والتي يقدمها بشكل غير صريح وملغز للغاية والتي ينزعها هى الآخرى عن سياقها المعتاد، ويغلف كل ذلك بإطار من الدراما الرومانسية.
يستغل جيم جارموش في نفس السياق إحدى الخصائص المرتبطة بمصاصي الدماء والتي لم يتم استغلالها على النحو الكافي من قبل، وهى خاصية الأعمار الطويلة، حيث أنه من المعروف أن مصاصي الدماء لا يموتون إلا بعدة طرائق معروفة لكل مشاهدي أفلام الرعب مثل لتعرض لضوء الشمس أو دق وتد خشبي في القلب، مما يسمح له بأن يبني تاريخًا ممتدًا لعلاقة آدم (توم هيدلستون) وإيف (تيلدا سوينتون) ليس بالسنوات فحسب، وإنما بالقرون، صحيح أنه لا يوجد في سياق الفيلم حكي صريح للمسارات التي اتخذتها قصة الحب هذه، لكننا لا نعدم على مدار الفيلم الإشارات الزمنية لها حتى مع قلتها التي تتمثل في معرفتنا بالأشخاص الذين قابلوهم من المشاهير على مدار هذه القرون، وتاريخ المقتنيات الشخصية لآدم وإيف.
من ناحية أخرى، يحاول جارموش هنا أن يقلب الصورة المتوارثة عن مصاصي الدماء إلى نقيضها التام، فبدلا من أن يكونوا مادة رخيصة للإخافة كما في كافة أفلام الرعب، يصيرون هنا هم الخائفين والمضطربين، وعلى الأخص آدم الذي صار يحبس نفسه في منزله رغم شهرته العارمة كمؤلف موسيقي بعيدًا عن البشر والمعجبين بموسيقى الروك آند رول الذين يطرقون أبواب منزله بشكل شبه يومي خوفًا من انكشاف سره وافتضاح عالمه الخفي، ولكن السؤال: هل في ذلك الأمر تفسير ما لابتعاد زوجته عنه لسنوات طويلة وعيشها في مدينة طنجة المغربية؟ الفيلم لا يعطينا إجابة صريحة على هذا السؤال، ولكن ربما كانت إيف تحاول في ذلك الوقت البحث عن أمانها الخاص في العيش بعيدًا عن دائرة الخوف التي يفرضها آدم على حياته.
يعتمد جارموش في كتابة الحوار بشكل مكثف على لغة الوصف الأدبي، مما يضفي الكثير من الشاعرية على كافة المشاهد التي تجمع البطلين، ويمنح العلاقة العاطفية المتشكلة على الشاشة الكثير مما تستحق، كما يخدمها كذلك الرتم البطيء والمتهمل الذي يسير به الفيلم، والتصوير الليلي الذي لا يتوقف طوال أحداث الفيلم ليس فقط بسبب أن مصاصي الدماء لا يستطيعون التواجد في ضوء النهار، وإنما كذلك من أجل أن يمنح أبطاله فسحة تمكنهم من فعل ما لا يستطيعون فعله بطبيعة الحال في النهار، خاصة مع الخلو شبه التام لشوارع ديترويت.