(....)
وقف الشريط في وضع ثابت
دلوقت نقدر نفحص المنظر
مفيش ولا تفصيلة غابت
وكل شيء بيقول وبيعبر
لا زلت حتى هذه اللحظة أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها هذه القصيدة لصلاح جاهين في إحدى البرامج التليفزيونية التي حاولت تفنيد ملابسات حادث وفاة الفنانة الراحلة سعاد حسني في العاصمة البريطانية لندن في صيف 2001، والتي كانت قد سجلتها سعاد حسني بصوتها لإحدى المحطات الإذاعية قبيل وفاتها بمدة بسيطة. صوتها وهى تلقي القصيدة يضطرم كجذوة نار لا تنطفيء من فرط تدافع الكثير من الأحاسيس في آن واحد: الغربة، الحزن، التعب، والأهم: الفقد.
بالتأكيد، كانت أي كلمات من الممكن أن تقال لا ولن تكفي سعاد لوصف حجم الخسارة الفادحة على المستوى الإنساني التي مُنيت بها في اليوم الحادي والعشرين من شهر أبريل عام 1986 بعبور صلاح جاهين إلى الجانب الآخر من النهر، فقد كان صلاح جاهين يمثل لسعاد وللكثيرين من مريديه ذلك الرفيق الطيب رقيق الطلعة دائم التواجد الذي لا يفارقك أبدًا أينما ذهبت: تطالع الجريدة الصباحية من أجل رسمته الكاريكاتيرية الجديدة لهذا اليوم، تجد رباعياته وأشعاره في كافة الأرجاء من حولك أينما جلت بعينيك، تفتح التلفاز لتستمع لإحدى أغانيه أو تشاهد أحد أعماله الدرامية.
"كانت تلك الأيام يا صديقي، تلك التي ظننا أنها لن تنتهي، كنا سنرقص ونغني لليوم وللأبد، ونعيش الحياة التي اخترناها، ونتعارك ولا نخسر أبدًا" كلمات تأتي من إحدى أشهر أغاني المطربة ماري هوبكن على الإطلاق، وهى خير وصف لحالة الفقد دائمة الحضور، وكانت تلك الأغنية دائمة الورود في ذهني أثناء كتابة هذا المقال، الذي أحاول من خلاله استرجاع بعض الأعمال السينمائية التي عمل جاهين عليها، ومنحها الكثير من روحه ومرحه وشجونه، لتكون خير تذكرة لنا لما كان عليه صلاح جاهين حقًا.
(....)
خلي المكنجي يرجع المشهد
عايز أشوف نفسي زمان وأنا شاب
(1)
" خلي بالك من زوزو، زوزووو، زوزو النوزو كاونزو "
فور عرض فيلم "خلي بالك من زوزو" في دور العرض المصرية عام 1972، تحول الفيلم على الفور إلى أيقونة جماهيرية للدرجة التي جعلته يحطم الرقم القياسي من حيث عدد أسابيع عرضه التي فاقت العام، وفي الوقت ذاته نال الفيلم هجوم ضاري من النقاد، وأجمعت غالبية الآراء آنذاك بأن الفيلم لا يختلف في شيء من قريب أو من بعيد عن العالم الذي اعتاد حسن الإمام تقديمه في أفلامه، لكن مرور الوقت وإعادة المشاهدة كانا عاملان كفيلان بأن يغير الكثير من منتقدي الفيلم آرائهم، وأن يتيقنوا بأن الفيلم ليس كما كانوا يتصوروه على الإطلاق.
أحب ملايين المشاهدين الفتاة زينب عبدالكريم أو "زوزو" لأنهم وجدوا انعكاس صورتهم فيها في أحلامها وتطلعاتها وحيرتها، وأحبوا قصتها بشدة التي تسير بشكل كبير كما كتبها جاهين على تيمة "السمكة خارج الماء"، حيث الفتاة التي تطل خارج عالمها المألوف، وتحاول أن تصنع لنفسها مسارًا مختلفًا غير ما يريده الجميع لها من خلال طموحها العلمي، وتحاول الحفاظ طوال الوقت على تفرد شخصيتها، وفي نفس الوقت على مشاعر الحب التي تكنها لعائلتها رغم خلافاتها معهم.
كما أحب المشاهدين "زوزو"، كان صلاح جاهين يكتبها على الورق بقلب ملؤه المحبة الجارفة لها، مما جعلها تنطلق دون قيود على الشاشة، كمثل طفلة تلعب على الشاطيء دون أن يلح والديها بضرورة العودة، حيث تلعب وتغني وترقص وتفعل كل ما طاب لها داخل الفيلم لتصير مثلا حيًا للبهجة.
(2)
"وإن كنت تُحكم جوا ملكوتك، الشارع الواسع فاتح لي إيديه"
بعد سنوات طويلة من الألم النفسي الشديد بعد هزيمة العام السابع والستين، كان المشروع السينمائي "عودة الابن الضال" الذي شارك جاهين في كتابته مع المخرج الراحل يوسف شاهين بمثابة المتنفس لكي يبث جاهين من خلاله كل شجونه المكبوتة حيال كافة الأحلام الكبرى التي بناها هو وأبناء جيله عما بعد 1952، والتي ما لبثت أن صارت مجرد "صرح من خيال" كما تقول السيدة أم كلثوم في أغنيتها الشهيرة.
يختار جاهين هذه المرة في قصته هذه شكلا سينمائيًا أطلق عليه -كما هو مكتوب على أحد ملصقات الفيلم– "المأساة الموسيقية"، وبالرغم من تميز هذا الشكل الفني، إلا أنه لم يفكر أحد من صناع الأفلام في استثماره بعد ذلك، ليقف "عودة الابن الضال" متفردًا في التجربة الفنية المقدمة من خلاله.
ويزداد العمل روعة مع كم الشحنة الغنائية التي يبثها فيها جاهين بالاشتراك مع شاهين الذي يجيد تطويعها على نحو فائق، مما جعل الفيلم منبع لا ينضب من الإلهام حتى تلك اللحظة، حتى صارت أغاني مثل "الشارع لنا" و"مفترق الطرق" من الأغاني التي لا تفقد قوتها بالتقادم، وتملك القدرة على التعبير دومًا عن الهموم المرتبطة بالأحلام الكبرى.
(3)
"الجرح مهما صبر، حييجي يوم وينز"
يعود صلاح جاهين هذه المرة بعيدًا في غياهب الماضي، محاولا استعادة القصة الحقيقية التي استلهمها من قبله الريس حفني أحمد حسن في عمله الغنائي الأشهر "شفيقة ومتولي"، والتي رأي فيه الكثير من الإمكانيات السردية الهائلة مما دفعه لإعادة صياغة القصة سينمائيًا، مشكلا إياها كما يراها وكما يريد أن يراها، وفارضًا تلك الرؤية من خلال "صيغة الراوي" التي يختارها للعمل ويقدمها طوال الفيلم بصوته.
في النسخة السينمائية من "شفيقة ومتولي"، يتخلي جاهين عن كافة هالات التقديس التي حفل بها الموال، والتي كانت السبب في العديد من الانتقادات لها رغم القيمة الجمالية التي تتمتع بها ولا يستطيع أحد نكرانها، ويصير البطلين في عمل جاهين ضحايا لتنويعات مختلفة من أشكال القهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهو ما يدفع بكلاهما نحو المسار الذي يسير فيه، متخليًا بذلك عن الكثير من القيم التي كان يطرحها الموال الشعبي، ومحاولا الوصول إلى صيغة أكثر تفهمًا.
كما لا يخفى على الكثير من المحللين الإسقاطات التي يضفيها جاهين في قصة شفيقة ومتولى على الوقت الحاضر، جاعلا منها قصة تملك القدرة على وضع نوع ما من التفسير لما جرى في عصره، وخاصة لما بعد 1952.