«وَرَأَى اللهُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ، إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى الأَرْضِ. فَقَالَ اللهُ لِنُوحٍ: «نِهَايَةُ كُلِّ بَشَرٍ قَدْ أَتَتْ أَمَامِي، لأَنَّ الأَرْضَ امْتَلأَتْ ظُلْمًا مِنْهُمْ. فَهَا أَنَا مُهْلِكُهُمْ مَعَ الأَرْضِ... فَهَا أَنَا آتٍ بطُوفَانِ الْمَاءِ عَلَى الأَرْضِ لأُهْلِكَ كُلَّ جَسَدٍ فِيهِ رُوحُ حَيَاةٍ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. كُلُّ مَا فِي الأَرْضِ يَمُوتُ».
(سفر التكوين 12:6-13، 17)
عندما سمعت لأول مرة منذ أكثر من ثلاث أعوام أن مشروع دراين آرنوفسكي القادم سيكون فيلمًا بعنوان نوح ومستوحى من الحدوتة الإنجيلية والتوراتية اتسعت عيناي عن آخرهما واتقدتا في حماسة، فمنذ زمن طويل وأنا أتمنى أن يأتي اليوم الذي تتناول فيه السينما تلك الشخصية التي تحمل كل هذا الثقل التاريخي والإنساني والعقائدي.. أبو البشرية الثاني الذي عاش عمره الطويل يبني الفُلك التي ستنجيه هو وزوجته وأبناءه ومن بقى من الأنقياء من الطوفان العظيم، بالإضافة إلى زوجين من كل ما مشى أو زحف أو طار على الأرض من مخلوقات. أي ملحمةٌ وأي قصة تحتاج أن تُرى على الشاشة الكبيرة. ومع تطور تقنيات صناعة السينما الحالية التي تسمح أخيرًا بتناول مُشبع لأسطورة نوح (لا أقصد بأسطورة هنا كونها خرافة من عدمه)، ومع اسم دارين آرنوفسكي على مقعد الإخراج، لم يكن من الممكن أن أكون أكثر سعادة.
لكن رغم كل هذا الانتظار والشغف، ومع طرح الإعلان الأول للفيلم، هبطت حماستي إلى النصف أو أقل كثيرًا، بعدما كشفت المقدمة الإعلانية عن تناول بدا هوليوودي جدًا وأمريكي للغاية. لكني كذَّبتُُ نفسي، وأصررت على مشاهدة العمل نفسه كي لا أطلق حكمًا غير مدروس كما يفعل المُتعجلين. وبعد منع طرح الفيلم في مصر، كان لابد أن أنتظر حتى تتوفر نسخة ذات جودة عالية حتى يتسنى لي مشاهدته بشكلٍ لائق.. وأخيرًا بعد أن شاهدت الفيلم في النهاية تأكد انطباعي الأول وباتت شكوكي حقيقة مجسده.
لن تجد هنا ما يثيرك، على الرغم من أن الفيلم له لحظاته ويحمل الكثير من الإثارة في بعض الأجزاء، إلا أن هذا لا يغفر أي شيء.. اللحظات الجيدة ضاعت وسط كم كبير من الاستسهال والأمركة الزائدة عن اللزوم. الفيلم لم يُقدم تناولاً مهيبًا يليق بشخصية بعظمة النبي نوح، بل على العكس جاء كإهانة كبيرة لكل شيء.. إهانة لنوح، وإهانة لأسطورته، وإهانة لرواية الكتب المقدسة، وللخيال، وفوق كل هذا إهانة لفن السينما ذاته.
تعال معي نُفصص الفيلم إلى عدة مستويات، ولنر ما استطاع تحقيقه - أو بالأحرى أخفق فيه - حتى تتضح الصورة بشكل أفضل.
على مستوى القصة
لم يُعامِل دارين آرنوفسكي نوح كما يستحق وكما وصلت قصته إلينا. أولاً: هو لم يلتزم بالحدوتة التي وردت في الكتب المقدسة، وهو بهذا فَقَد قطاع عريض من المشاهدين مع أول نصف ساعة من الفيلم. أي fan حقيقي لأي راوية لا يحب أن تسرد له روايته المُفضلة كما تشاء أنت، بل كما أراد لها مؤلفها أن تكون. الرواية الأصلية دائمًا ما يكون لها قدسيتها الخاصة عند مُعجبيها، وهؤلاء لا يجب إغفالهم (خاصةً حين يكونوا بالملايين). هذا ما حدث مع هاري بوتر مثلاً وثلاثية سيد الخواتم ولهذا حققا نجاحًا خرافيًا، الجمهور يقبل أن تُغيِّر تفاصيل بسيطة في روايته المحبوبة، ويسمح لك أن تُضيف وتَحذِف في حدود المعقول، لكن أن تُغيِّر من وجهة الأحداث بشكل كامل هو الأمر الذي لن يغفره لك قط. هناك مِئات الأمثلة لروايات أخفقت في السينما بسبب التغيير في النص، بعض المخرجين حين حاولوا وضع بصمتهم الخاصة على قصص الـ Comics في المعالجة السينمائية لها وغيَّروا في تفاصيلها أو تلاعبوا بمصير أحد أبطالها مزقهم المهاويس إربًا بلا رحمة. فَقَد الفيلم بتناوله البعيد عن الحدوتة التوراتية ملايين المؤمنين، وعوضًا عن ذلك لم ينجح في إبهار غير المؤمنين.
على مستوى السيناريو
السيناريو الذي كتبه آرنوفسكي مع آري هاندل لا يتطور بشكل طبيعي عن طريق حبك أحداث والبناء عليها، بل فعلها بقفزاتٍ متلاحقة. يبدأ الفيلم بنوح وهو فتى صغير، حيث يشهد مقتل والده لَامِّك على يد توبال قايين، ثم فجأة وبدون مقدمات نجده وقد كبر. الآن نوح يعيش مع زوجته وأولاده الثلاث سام وحام ويافث، وبعد رؤية زهرة تنمو من تلقاء ذاتها يذهب نوح لاستشارة جده متوشالح، لنبدأ على الفور بعدها في بناء السفينة. حسنًا، الآن هذا الحدث الجلل من المفترض أن ينال الاهتمام والتركيز الأكبر، لكننا أيضًا نفاجئ بالسفينة قد بُنِيَت وتقف شامخة دون أن نرى شجرة واحدة تُقطع ولا مسمار واحد يُدق. ثم يبدأ تتابع الطوفان وسرعان ما ينتهي. قس على هذا كل شيء، لم يهتم كاتبا السيناريو بإعطاء أي تفصيلة حقها، وحاولا أن يضيفا عناصر من الدراما والرومانسية وما إلى ذلك إلى العمل كي يجعلاه جذابًا، فقط ليُفسداه تمامًا.
على مستوى التمثيل
هناك لحظات من التمثيل الجيد وسط فيض من السذاجة العائدة في الأساس إلى حوار مكتوب بأسلوب مُعاصر للغاية لا يتناسب مع زمن سحيق من المفترض أنه أقرب إلى عصر آدم أكثر من أي شيءٍ آخر. لم يستطع راسل كرو أن يقنعني بحكمة ولا سِن رجل قُدّر عمره بـ 950 عامًا، ولم يساعده في هذا التنميق السيِّئ الذي حظى به، والذي جاء بعيد تمامًا عن صورة نوح التي نحملها جميعًا في أذهاننا كشيخ طاعن في السن شديد المراس وذو لحية طويلة كلحية جاندالف. أنتوني هوبكنز في دور صغير جدًا لم يسمح له بتقديم أي شيء، جينيفر كونيلي ككل شيء في الفيلم زوجة عصرية للغاية ترتدي ملابس ضيقة وبنطالًا ضيقًا وحذاء ذو رقبة عالية وتتحدث كمواطني مانهاتن، إيما واطسون مراهقة أمريكية مثالية، وإن كانت قد استطاعت تقديم بعض اللحظات الممتازة في تتابعات النهاية. أما الممثلين الثلاثة الذين قاموا بأدوار سام وحام ويافث، فلا أجد داعي للحديث عنهم من الأساس.
على مستوى الإخراج
تتابع وحيد نشعر فيه بوجود دارين أرنوفسكي، وهو التتابع الذي يجلس فيه نوح مع أسرته داخل الفُلك ليسرد لهم قصة الخلق. يمزج آرنوفسكي بشكل فريد حكاية الخلق بالتطور الدارويني بالخطيئة الأصلية بنهاية الأيام، ويستعرض بموهبة فائقة وتضافر خلاب تفسيره للأيام الستة الذين استغرقهم الخالق ليرسي قواعد الكون والحياة. هنا يمتزج العلم مع الدين في مجموعة من المشاهد ستصيبك بالقشعريرة. أيضًا التتابع الذي كان فيه العمالقة يدافعون عن السفينة أتى مؤثرًا بشكل كبير. بخلاف هذا لا شيء مميز، وأي مخرج هوليوودي آخر - ربما مايكل باي - كان يستطيع أن يتولى مهمة الإخراج دون أن نشعر نحن بأي فارق.
على مستوى المؤثرات
رخص شديد في الإنفاق على المؤثرات البصرية أنبت ثمارًا فاسدة تمامًا. لا أظن أن هناك مشهد واحد من الفيلم سيتقادم بشكل جيد. الحيوانات هنا رقمية للغاية وتذكرك بالذئاب رخيصة الهيئة من سلسلة Twilight، والعمالقة الحجريين قُدموا بتصميم ساذج تمامًا وتحريك متخشب أكثر سذاجة، فعل راي هاري هاوزن ما هو أفضل منه منذ ستين عامًا. أما عن الطوفان نفسه، الحدث الرئيسي الذي كان من المفترض أن يقدم لنا وليمة بصرية مُشبعة تم اختصاره بشكل يثير الغيظ وكأنه أمر ثانوي. هل شاهدت المقدمة الإعلانية التي استعرضت لحظات من بدء حدوث الطوفان؟ حسنًا، لن يفوتك الكثير إذا لم تشاهد الفيلم نفسه فالمشاهد الزائدة لا تتعدى اثنان أو ثلاثة على الأكثر.
على مستوى الأزياء
ربما أكثر ما سيكسر إيهامك بالعمل بعد سطحية التناول هو سوء الاختيار والذوق في تصميم الملابس، تلك التي أتت متناقضه بشكلٍ صارخ مع عصر سحيق القدم كعصر نوح. كل شيء مُطرز بعناية فائقة ونظيف ومُحاك بإتقان، الملابس تتناسب وأجساد مُرتديها بشكل كامل، والأحذية جديدة وعصرية وبنعال مصقولة، والمعاطف بأزرار وفتحات أنيقة ودون قطع واحد. في الكثير من اللقطات المقربة ستُميز خيط الحياكة واضح بشكل مستفز، حتى لتشعر أنهم استأجروا مجموعة من البُلهاء ليقوموا بالعمل.
على مستوى الموسيقى
لا شيء مما عودنا عليه آرنوفسكي في أفلامه العظيمة.
على المستوى العقائدي
فضلت أن اختم بهذه النقطة لأني عندما قررت مشاهدة الفيلم لم يكن هدفي من البداية أن أشاهد فيلمًا دينيًا يحكي لي بشكل رتيب ما أعرفه سلفًا من النصوص الدينية، كنت أريد فيلمٌ قادر على استحضار شخصية فائقة العظمة كشخصية النبي نوح بشكلٍ لائق. يستحضر أسطورتها.. مُعانتها.. إصرارها.. قوتها.. لكن مع الآسف كل هذا تم استبداله بتناول هوليوودي سخيف لن يبقى في ذاكرة السينما لخمس سنوات قادمة، وكان من الأفضل ألا يظهر إلى النور من الأساس ليترك حكاية نوح في أذهاننا حية، مُتقدة، عظيمة، كما كانت دائمًا.