تخيل نفسك في نفس موقف جندي بريطاني جريح ومجرد من سلاحه ومُلاحق في إحدى أحياء مدينة بلفاست الكائنة بأيرلندا الشمالية في عام 1971، أي في أتون الصراع الشرس والدموي بين الأيرلنديين الكاثوليك المطالبين بالانفصال عن المملكة المتحدة واستقلال أيرلندا، والأيرلنديين البروتستانت الموالين للمملكة، ومع قمة تصاعد التوتر مع الدولة أو أي من يمثلها، أليس هذا بموقف لا يحسد عليه من يكون مكانه أيًا كان رأيك من هذه الأحداث والوقائع التاريخية؟
هذه ببساطة هي الحبكة الرئيسية لأول أفلام المخرج يان ديمانج ('71) الذي عرض ضمن قسم الأفلام الأوروبية ببانوراما الفيلم الأوروبي، والذي عرض كذلك للمرة الأولى ضمن فعاليات الدورة الرابعة والسبعون لمهرجان برلين السينمائي الدولي.
وبالعودة للفيلم، ستكتشف أنه من أنجح الأفلام التي استطاعت أن تركب وقائع تاريخية حقيقية على قصة تنطوي على الكثير من عناصر المطاردة والتشويق ولعبة (القط والفأر) الاعتيادية دون أن يبدو هذا التركيب مفتعلًا، أو أن يكون مستخدمًا فقط لإضفاء المزيد من العمق على نوع سينمائي قد يبدو للوهلة الأولى هوليوودي النزعة.
أضف إلى ذلك أن يان ديمانج لا يضيع أي وقت من الفيلم لكي يشرح خلفية الصراع، فمن المفترض أن ما حدث في أيرلندا خلال هذه الفترة هو أمر معروف للغالبية العظمى من المشاهدين، حتى ولو من خلال خطوط عريضة فقط، ولكنه بدلًا من ذلك يدخلك مباشرة إلى قلب الحدث بعد تمهيد وجيز للغاية لا يتجاوز عشر دقائق من الفيلم، وذلك حتى لا تضيع نكهة التشويق التي يضفيها المخرج على عمله.
ينجح ديمانج أيضًا في إيصال خيوط قصته بأبسط الطرق الممكنة دون أن تجد نفسك حائرًا بين الأطراف المتصارعة المتعددة في الفيلم، ودون حاجة إلى التريث قليلًا للتبين مما يحدث بالضبط، حتى مع تداخل أطراف اللعبة، وتعقد المطاردة على قدر تزايد عدد مطاردي الجندي جاري هوك (جاك أوكونيل).
يتمتع ديمانج في عمله الأول بأسلوب ممتاز وفعال في بناء مشاهده، حيث يبدأ التصعيد تدريجيًا من شريط الصوت حتى يتوحد هذا التصعيد الصوتي مع تصعيد مرئي يتمثل في تكثيف تدريجي في المقابل لعناصر الصورة ولألوانها، وهو ما يتضح في عدد من المشاهد الرئيسية في العمل، يأتي على رأسها مشهد الاشتباكات ومشهد انفجار الحانة.
إن مشهد الاشتباك بين القوات البريطانية والأيرلنديين الكاثوليك هو مشهد تصعيدي أستاذي، وهو مثال ممتاز في الوقت ذاته للتدليل على قدرات ديمانج الإخراجية، فهو يبني التصعيد التدريجي للمشهد من مزج الموجات الصوتية/الموسيقية مع أصوات خبط الأيرلنديين لأغطية صناديق القمامة على الأرصفة، ومع وصول ازدحام شريط الصوت لأقصى مدى له، يترافق ذلك مع ازدحام الصورة بالتجمعات البشرية من الطرفين مما يغذي حدة التوتر في المشهد أكثر فأكثر مما يؤدي للنتيجة المتفجرة الطبيعية التي يحملها المشهد لنا.