وأخيرًا جاء ما يمكن أن نعتبره الحدث الأبرز والأهم في بانوراما الفيلم الأوروبي لهذا العام، إن لم يكن كذلك بالفعل، وهو عرض فيلم Winter Sleep لمخرجه نوري بيلج سيلان الذي توج في الخامس والعشرين من مايو الفائت بأرفع جائزة في مهرجان كان السينمائي الدولي، وهى جائزة السعفة الذهبية، ليكون بذلك هو ثاني فيلم في تاريخ السينما التركية يحوز على هذه الجائزة منذ فيلم Yol الذي فاز بها في عام 1982 بالمناصفة مع فيلم The Missing للمخرج اليوناني كوستا جافراس.
قبل الحديث عن Winter Sleep، ينبغي القول أن فن السينما قد صار له الكثير من السطوة منذ ظهوره الأول على كافة الفنون التي سبقته، وهو ما جعله يسمح لنفسه أن يستفيد منها جميعًا، ويأخذ منها ويرد كما يتراءى له قدمًا بقدم مع رحلة تطور السينما كفن عبر الزمن حتى صار فن مستقل بذاته، وإن كان الفضل في استقلاليته هذه يعود إلى كل ما استطاع تطويعه لصالحه.
أما في Winter Sleep فيحدث العكس تمامًا لما سبق، فتصير السينما هنا عامل مساعد لصالح الشكل الأدبي الخالص الذي يصيغ به بليج سيلان الفيلم بأكمله، محملًا إياه مذاق الأدب الروسي الكلاسيكي في لغته البصرية وحواراته التي تحمل صبغة الوصف الأدبي على نحو لا تخطئه الأذن، وعلى الأخص أعمال الأديب الروسي أنطوان تشيخوف الذي يعد من رواد فن القصة القصيرة، والذي يقتبس سيلان فيلمه بالفعل عن عدة قصص قصيرة له.
يصير النص المكتوب هنا هو المحور والأساس لكل شيء، وتتحول الأجواء الشتوية لأناتوليا إلى منبع صالح يتيح للمخرج أن يحيط نصه السينمائي بأجواء تشبهه للغاية وأن يغذي كلاسيكيته أكثر، بحيث تتحول كل كلمة مصاغة لفظيًا إلى صورة، وهو ما يجعلها أمرًا معادلًا للوصف الأدبي في صيغته الأصلية، لكنه يؤدي نفس الوظيفة بنفس الشكل المعتاد.
في هذا الفيلم الطويل الذي تتجاوز مدته 3 ساعات بستة عشر دقيقة - والذي بلغت مدته في نسخته الأولية 4 ساعات ونصف الساعة-، يقسم بليج سيلان حكايته كذلك التي تمتد على مدار أيام إلى فصول دون أن يضع تقسيم صارم وفاصل لها، لكنك ستستشعر ذلك بسلاسة عندما تنتقل الحكاية من محور إلى آخر، ومن حدث محوري إلى آخر.
يتسيد الحوار الموقف غالبية الوقت، ويستغله سيلان للتعبير عن عاملين مركزيين في الشخصيات: المشاعر والأفكار، وقد يتحول الحوار في كثير من اللحظات إلى مونولوج طويل مرصع بالكثير من الاستعارات والتشبيهات والعبارات المجازية، مثل المونولوج الطويل الذي تذم فيه نيهال (ميليسا زوزان) زوجها ايدين (هالوك بيلجينير) بكل قسوة.
إن هذا اللجوء المكثف إلى الحوار لا يأتي فقط لكي يتسق مع الطبيعة الأدبية للفيلم، بل يتماشي مع طبيعة العزلة التي يعيش فيها أبطال الفيلم الثلاثة معًا، خاصة مع حلول موسم الشتاء الذي يقل فيه عدد السياح المتوافدين على الفندق الذي يملكه "إيدين"، ويعمل كذلك على حصر الأبطال في مكان محدود ومتسع في نفس الوقت، وهو ما يفتح الباب أمام البوح حتى إذا كان هناك نوع من الاضطرار إلى اللجوء له.
وعلى النقيض من الضجر الدائم الذي تشعر به كل من الزوجة والشقيقة من العيش تحت سقف واحد مع "ايدين" في هذا المكان المنعزل، يبدو أن "ايدين" نفسه متصالح تمامًا مع عالمه الصغير للغاية في هذه البلدة، ومحب لبرجه العاجي الذي يبقيه ناظرًا على كل شيء من فوق، ليس فقط لما يحدث في البلدة، وإنما لكل شيء في العالم على نحو سواء، ومحافظ على الصورة التي يحب أن يرى نفسه عليها دومًا، حتى لو اضطره ذلك لأن يدعي ما هو ليس عليه بالفعل.
إن شخصية "ايدين" - حتى مع الكشف عن الكثير من دواخلها وهواجسها حواريًا - تظل لافتة للانتباه وغنية بالكثير من المناحي غير المُستكشفة، فكل هذه الحوارات التي تتحدث عنه إنما هى في النهاية وجهات نظر انطباعية، وقد تعبر عن جوانب من الحقيقة، ولكن ليس كل الحقيقة، وقد تجد نفسك في مشاهدة ثانية متوغلًا أكثر في عالمه ومع شياطينه التي تحكمه، وتعرف أكثر من يكون.
قد يستغرب البعض من اختيار مهرجان كان هذا الفيلم لتتويجه بالسعفة الذهبية بسبب نزعته المغرقة في الكلاسيكية، ولكني أظن أن في العودة إلى الأساليب القديمة نوع من التجريب وإعادة الاستكشاف بعيون معاصرة، أو كما يقال في الأثر: "الأساليب القديمة هى المثلى دومًا".