إن الحقيقة القائلة بأن العنف قد صار من أهم مكونات الثقافة الأمريكية الشعبية هي حقيقة لا يختلف عليها شخصان، خاصة مع وجود الكثير من العوامل التي تساعد على انتشاره واستفحاله: قوانين متساهلة بخصوص اقتناء الأسلحة، ارتفاع نسب البطالة والفقر، اتساع الهوة بين الطبقات المجتمعية، وجود منافذ إعلامية ترسخ للعنف أكثر فأكثر بدلًا من أن تفعل شيئًا حياله.
وعلى ذكر وسائل الإعلام، من المؤكد أنك قد شاهدت - عزيزي القاريء - في مختلف فترات حياتك عشرات الفيديوهات التي تبثها برامج المنوعات الأمريكية عن مطاردات الشرطة للمجرمين والخارجين عن القانون، أو شاهدت عدد لا يستهان به من القصص الإخبارية المصورة التي تتمحور حول جرائم بشعة تم ارتكابها في سكون الليل، لكن هل تساءلت من قبل عن السبب الذي يجعل فيديوهات كهذه رائجة ومطلوبة إلى هذا الحد؟
ربما لا يكون فيلم دان جيلروي الأول كمخرج Nightcrawler هو أول فيلم تعرض للعلاقة الوثيقة التي تربط بين الإعلام والعنف، لكنه في ذات الوقت يحاول أن يفتش عميقًا أكثر من أي وقت مضى في عقول ونفوس من يرسخون له، ليسير الأمر في حلقة مفرغة ومفزعة لا فكاك منها، من يدخلها تصير مشاعره جامدة إزاء أي حدث من شأنه أن يُشيب لرؤياه شعر أي شخص طبيعي.
إن الفيلم بأكمله عبارة عن رحلة صعود تبدأ من أسفل القاع ومن قلب ظلمة الليل الدامس، بطلها الرئيسي هو لويس بلوم (جيك جيلنهال) الذي يستميت في البحث عن مصدر ثابت للدخل إلى الحد الذي يدفعه لسرقة أي شيء يقع في يديه من أجل بيعه لمن سيدفع إلى أن يعثر على ما سيعتبره فيما بعد منجم ذهب لم يخطر على باله من قبل، وهو أن يقوم بتصوير مسارح الجرائم ومطاردات الشرطة، والقيام ببيعها فيما بعد إلى المحطات الإخبارية.
إن المسار الذي يختاره لويس بلوم لنفسه يعد من أسهل المسارات التي يمكن أن يختارها المرء في بيئة كهذه، فكل ما يتطلبه الأمر للبدء كاميرا احترافية وسيارة وجهاز لالتقاط إشارات لاسلكي الشرطة، كما أن المردود المادي مضمون بشكل كبير، خاصة حينما تكون الحوادث غير اعتيادية، والمشاهد الملتقطة بالكاميرا معبرة ومستفزة للمشاهد، لأنها في النهاية سلعة مطلوبة من قبل القنوات الإخبارية المحلية التي تتنافس فيما بينها على زيادة نسب المشاهدة.
مع استمرار الفيلم، يتضح أكثر فأكثر الجانب الطفيلي لهذه المهنة، ففي النهاية من يمتهن هذه المهنة لا يقوم بعمل فعال في هذه العملية كمثل عمل الشرطة أو المسعفين، ولا يساعد في هذا الأمر بأي شيء، بل هو يبحث عن مادة تصلح للبيع لكي تملأ بها القنوات ساعات الهواء لكي تدور الدائرة الجهنمية من ترسيخ وإعادة إنتاج العنف الذي تتصاعد حدته بفضل العوامل التي سبق ذكرها.
إن طبيعة هذه المهنة تلقي بظلالها على طبيعة العلاقة التي تجمع بين لويس بلوم ونينا (رينيه روسو)، مديرة الفترة الإخبارية المسائية بإحدى القنوات التي تكافح لكي تزيد من نسب المشاهدة لديها، وهى علاقة نفعية بحتة، يعرف طرفاها أنهما في حاجة لأحدهما الآخر، فهى تحتاج إلى أخبار مصورة ساخنة وحصرية لكي تعزز موقفها في مسيرتها المهنية المهددة، وهو يحتاج إلى من يبث المواد التي يصورها ويشعره بحجم الإنجاز الذي يحققه، وهو ما يجعل هذه العلاقة على خيط دائم من الشد والجذب من أجل التفاوض على تنفيذ ما هو مطلوب من الطرفين على الوجه الأفضل.
ولكن ربما ما يعكر صفو هذا العمل الدرامي المتماسك قليلًا هو الطريقة التي يتم بها تنحية منافس ليو بلوم الشرس جو لودر (بيل باكستون) من طريقه خلال أحداث الفيلم عن طريق اللجوء إلى حيلة درامية مستهلكة من خلال تعرضه لحادث يؤدي به إلى الخروج من السباق، وفيما عدا ذلك فإن الفيلم يستحق المشاهدة عن حق، حيث ستصير فيه شاهدًا حقيقيًا على ما يحدث في ليل هذه المدينة الصاخبة التي لا تنام أبدًا من كل الجوانب.