لابد أن نشير أولا إلى أنه لازالت هناك فجوة واسعة بين ما يحققه شباك التذاكر من إيرادات والتجارب السينمائية ذات الرؤية الفنية العالية، وعلى الرغم من تصدر الكثيرين من صناع السينما المصرية البرامج التليفزيونية ومطالبتهم بضرورة حل لتلك الأزمة وتحقيق المعادلة الجدلية التي تكمن في نجاح الفيلم فنيًا وجماهيريًا، وذلك بفتح سوق سينمائي جديد يُقدر عقلية المشاهد ويحترمها وفي نفس الوقت يقدم له المتعة والرسالة، إلا إنهم قد بدوا وكأنهم يتعاملون مع هذه الأزمة على أنها شيء بديهي وطبيعي ولم يكتفوا بهذا الأمر فقط بل أنهم في بعض اﻵحيان يصنعونها بأنفسهم بتقديهم أفلام هشة وسطحية لا ترتقي إلى المستوي المطلوب.
ومع هذا شهد العام الجاري عرض بعض التجارب السينمائية ذات الدلالة الفنية الجيدة، هكذا هو الحال مع فيلمي "القط" للمخرج إبراهيم البطوط وفيلم "بتوقيت القاهرة" للمخرج أمير رمسيس، جاء إبراهيم البطوط صادمًا كعادته حيث يحكي فيلمه "القط" في جو من الإثارة والغموض عن تجارة الأعضاء البشرية في أحياء القاهرة وبيع القاصرات وتزويجهن من رجال كبار في السن وصراع العصابات مع بعضهم البعض في إشارة قوية لأحداث ما بعد ثورة 25 يناير والفوضى التي كانت منتشرة وقتها.
لا تخلو أفلام البطوط عادةً من البُعد الرمزي الذي يدفعك منذ الوهلة الأولى التي تشاهد فيها أعماله إلى التفكير والتفاعل، هذا بالإضافة إلى القدرات التمثيلية التي يتمتع بها بطل العمل عمرو واكد.
أما الفيلم الثاني "بتوقيت القاهرة" هو الآخر من نوعية الأفلام النفسية الفكرية التي تحاكي الواقع بشكل مختلف حيث تدور أحداث الفيلم في يوم واحد من خلال ثلاث قصص إنسانية منفصلة، الفيلم ينم بشكل واضح عن عقلية واعية ومثقفة للمخرج، حيث ضرب بقاعدة النجم الأوحد عرض الحائط، ونجح في صنع توليفة جديدة من كبار وشباب الممثلين. حقيقةً، استطاع كل منهم أن يبدع في دوره ومكانه كما شهد الفيلم عودة الفنان العظيم نور الشريف بعد غياب ست سنوات.
من المحزن حقًا أن الفيلمين لم يحققا إيرادات ضخمة مقارنةً بما حققته أفلام أخري عُرضت معهما في نفس الموسم مثل أفلام "ريجاتا" و"يوم مالوش لازمة".
بدون دعاية تذكر، تم طرح الفيلم الفلسطيني "عمر" في عدد قليل من السينمات المصرية خلال شهر مايو الماضي، الفيلم من إخراج وتأليف هاني أبو أسعد وبطولة آدم بكري وليم لوباني ووليد زعيتر وإياد حوراني، ويدور الفيلم في إطار سياسي رومانسي، يتسم أبو أسعد برؤية سينمائية ناضجة وعين فاحصة دقيقة كما يمتلك تاريخًا كبيرًا في السينما الفلسطينية، يتناول فيلمه نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، وذلك من خلال قصة شاب يدعى "عمر" يعمل خبازًا يستطيع بمعاونة صديقيه "طارق" و"أمجد" قتل جندي إسرائيلي لكن سرعان ما يتم القبض عليه من قبل رجال المخابرات الإسرائيلية، ويدخل في مواجهة مباشرة مع قائد المخابرات الذي يعتدي عليه بالضرب والإهانة والتعذيب وسجنه في زنزانة غير آدمية بالمرة، ثم يقوم أخيرًا بإطلاق سراحه بشرط أن يقدم عمر المساعدة لهم ليمسكوا بمن قتل الجندي، وما أن يخرج عمر من المعتقل يجد نفسه محاطًا بالشكوك من قِبل أصدقائه وحبيبته "نادية"، أخت طارق.
في نقلة مفاجئة يأخذنا الفيلم إلى أحداث مليئة بالشك والغموض فلم يتناول هذا الجزء من الفيلم كما هو معهود دائمًا الصراع بين الفلسطيينين والإسرائليين إنما تناول الصراع الفلسطيني الفلسطيني باتهام كل طرف للطرف الآخر بالجاسوسية والعمالة، حتى أن ينتهى بمقتل طارق بالخطأ بعد مشاجرة شرسة بين طارق وأمجد وعمر بسبب حبهما الاثنين لنادية.
من جهة أخرى يتناول الفيلم قصة حب عميقة بين عمر ونادية وبعد أن يتفقان على الزواج يتركها عمر لتتزوج من صديقه أمجد، ذلك بعد أن أخبره بأن هناك علاقة غير شرعية تجمعه بنادية، فقرر عمر الانسحاب وكان مشهد تشييع جنازة طارق هو مشهد الوداع المؤقت بينه وبين حبيبته.
يستهل الفيلم أحداثه بتسلسل ونسق مرتب حيث تُفتح الكاميرا على وجه عمر المترقب في لقطة قريبة "كلوز اب" وهو بجوار الجدار ثم يمسك بأحد الحبال المعلقة عليه، ويبدأ في تسلقه بشكل يوحي بأن هذا الموقف ليس غريبًا عليه، من اللحظات الأولى للفيلم يظهر جليًا لمسات المخرج الفنية بتعمده إظهار جملة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين المكتوبة على الجدار العازل، تلك الجملة التي بنى عليها سير الأحداث المقبلة، عبرت الصورة السينمائية عن المواقف الدرامية المؤثرة التي يتضمنها الفيلم بشكل جيد، ذلك عندما أوقفت دورية إسرائيلية عمر وقامت بتكديره والاستهزاء به، تعمد المخرج جعل بطله العنصر الأساسي في تكوين الصورة على الرغم من أن هذا عكس طبيعة الموقف حيث تصدر عمر كادر الشاشة وهو رافع يديه خلف رأسه في انصياع تام لأوامرهم وفي الخلفية الجنود الإسرائليين يستمعون إلى بعض الأغاني.
حديث الأطفال على مائدة الطعام مع عمر عن لاعبي فريق ريال مدريد وتحليلاتهم الرياضية الفذة قبل تنفيذ مهمة القتل بساعات، هذه التفصيلات الدقيقة التي قد تكون غير مهمة من وجهة نظر البعض إلا أنها أكبر دليل على أن سيناريو الفيلم قد نجح بالفعل في خلق جو يتسم بنوع من الحميمية المفرطة بينه وبين المشاهد، يتمتع الفيلم بلحظات سينمائية عظيمة تتمثل في المشهد الذي جمع بين عمر ونادية بعد زواجها من أمجد، وبعد أن أنجبت طفل وطفلة، هذا المشهد الذي وصلت فيه الحبكة الدرامية إلى ذروتها باكتشاف عمر حقيقة الأمر وكذب أمجد عليه بأنه لم يكن على علاقة غير شرعية بنادية كما قال له من قبل وتسبب هذا في ابتعاد عمر عن نادية ومقتل طارق، جاءت نهاية الفيلم بقتل عمر لقائد المخابرات الإسرائيلية وسط عدد كبير من رجاله.
لم يفسد علينا الاستمتاع بهذا العمل البديع سوى سمة الإيقاع البطيء الذي انتاب بعض المشاهد، كذلك كنا في حاجة إلى مشاهدة بعض فنون الفلكلور الفلسطيني.
لم يكن فيلم عمر هو الأول من نوعه للمخرج فقد سبقه فيلم "الجنة الآن" 2005، ذلك الفيلم الذي حقق نجاحات كبيرة في عدد من المهرجانات العالمية.
"عمر" فيلم واقعي من الدرجة الأولى، فهو نموذج للبناء الدرامي الذي يمزج بين الواقعية المجردة وحالة الاختزال الدرامي، نحن أمام إبداع متكامل الأوجه بدءًا من اختيار طاقم الممثلين والإخراج والتصوير وصولًا للمونتاج والمكساج، فيعد هذا الفيلم أفضل أفلام السينما الفلسطينية في الأونة الأخيرة حيث عبر بكل صدق عن معاناة الشعب الفلسطيني ونضاله الشديد ضد الاحتلال الإسرائيلي.
جال فيلم عمر عدد كبير من المهرجانات الدولية والعربية حيث ترشح للفوز بجائزة الأوسكار كأفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية في عام 2014، كما حصل على جائزة النقاد بقسم نظرة ما في مهرجان "كان" السينمائي وحصل على جائزة المهر العربي لأفضل فيلم روائي من مهرجان دبي السينمائي الدولي، وعلى الرغم من كل هذه التكريمات والجوائز، لم يحقق الفيلم أي صدى في الشارع المصري ولم يحظ بنجاح واضح في دور العرض.