بوجهه المكتنز وبشرته شديدة البيضاء يطل عليك بنبرته المميزة قائلاً: "مساء الخير، أنا ألفريد هيتشكوك"، مقدمــًا سلسلته التليفزيونية الشهيرة (ألفريد هيتشكوك يقدم)، ليجعلك لمدة نصف ساعة تقريبـًا تنتظر ماذا سوف يحدث في نهاية الحلقة، غير قادر على التوقف عن مشاهدة باقي الحلقات.
يقول عنه المخرج الفرنسي الشهير فرانسوا تروفو في كتابه: هيتشكوك (1983) والذي اعتمد فيه على حوارات مع المخرج الكبير: "في الولايات المتحدة، عليك احترام هيتشكوك لأنه يصور مشاهد الحب وكأنها مشاهد قتل، وفي أوروبا عليك احترامه لأنه يصور مشاهد القتل وكأنها مشاهد حب. على أي حال إنه نفس الشخص الذي نتحدث عنه، نفس الرجل، نفس الفنان".
كان لبيئة هيتشكوك انعكاســـًا كبيرًا على أعماله السينمائية، فألفريد الذي وُلد في مدينة "إيسكس" بانجلترا في عام 1899 لعائلة كاثوليكية متوسطة خرجت من إطار ديني لدولة غالبيتها مسيحية بروتستانتية. التحق وهو في سن الحادية عشر بمدرسة سان إجانتيوس بلندن، يقول هيتشكوك عن هذه المرحلة من حياته "لقد تطور لدي شعور قوي بالخوف خلال هذه الفترة، خوف أخلاقي من الانخراط في أي شيء خاطئ ، لقد حاولت دومـــًا تحنب الوقوع في الخطــأ، لماذا؟ ربما خوفــًا من العقاب الجسدي.*
بعد انتهاء دراسته، عمل في مجال الإعلان في شركة "هنلي تليجراف"، و برز في هذه المرحلة اهتمامه بصناعة الفيلم، فقام بدراسة الفنون في جامعة لندن. في عام 1920 كانت خطوته الفعلية للعمل في مجال صناعة الفيلم عندما تقدم بطلب للوظيفة في شركة Paramount's Famous Players Lasky فرع لندن، والتي أصبحت فيما بعد "Paramount Pictures"، في هذه المرحلة كانت السينما البريطانية أقل من السينما الأمريكية من حيث الجودة الفنية والكم، وكان لشركة باراماونت محاولات للرقي بالسينما في بريطانيا في هذا الوقت.
تدرج هيتش في العمل السينمائي من خلال مشاركته في كتابة سيناريوهات والعمل كمساعد مخرج، خلال هذه المرحلة التقى برفيقة حياته ألما ريفيل، التي شاركته معظم أعماله منذ البداية سواء على مستوى المونتاج أو كتابة السيناريو، وإن لم يذكر اسمها في كثير من الأعمال. وقد أُنتج فيلم في عام 2012 من بطولة أنتوني هوبكنز وهيلين ميرين يتحدث عن علاقة هيتشكوك بزوجته أثناء تصوير أعظم أفلامه "Psycho".
أول خطوات هيتشكوك العملية كمخرج كان عام 1922 عندما قام بإخراج فيلمه "رقم 13" لكنه لم ينجح في إكماله وتوقف المشروع، وتكرر الأمر في العالم التالي في فيلمه "دائمــًا أخبر زوجتك". يعتبر فيلمه "حديقة اللذة" هو أول مشروع حقيقي مكتمل له كمخرج، لكنه لم يكن فيلمـــًا ناجحـــًا. وبالرغم من فشل الفيلم إلا أنه كان مُهمــًا في تشكيل شخصية هيتشكوك الإخراجية حيث أن الفيلم تم تصويره في ألمانيــا وهناك تعرف على ما يسمى بالمدرسة "التعبيرية" في الإخراج والتي ساعدت في صقل موهبته بشكل واضح.
يعتبر فيلم النزيل 1927 "The Lodger" هو أول عمل سينمائي لألفريد وضع فيه بصمته كمخرج، فيلم صنع له اسمـــًا سينمائيــًا بين أبناء جيله من المخرجين. ثم توالت بعد ذلك أفلام هيتشكوك التي تخطت الخمسين فيلمـــًا.
خلال قرابة النصف قرن، أخرج هيتشكوك تحــفــًا سينمائية، يصعب عليك أن تقول أيها الأعظم، فلكل عمل أخرجه ألفريد له مذاق خاص، تجلس طيلة وقت عرض الفيلم مشدوهــًا، متوترًا، متوجــــســـًا، مترقبــًا، بأي شيء سيفاجئك السيد هيتش، من سيكون الجاني الحقيقي؟ هل ستتعاطف مع القاتل؟ حتى عام 1939 كان هيتشكوك مخرجــًا بريطانيــًا يصنع أفلامــًا تدور عن بريطانيــا التي وصف سماءها بأنها كانت رمادية وأن المطر والطين، وحتى هو نفسه، كان رماديــًا أو أوروبا بشكل عام كانت رمادية اللون، حتى انتقل بعد ذلك إلى الولايات المتحدة ليصنع فيلمـــًا مميزًا للغاية وهو فيلم ريبيكا Rebecca بطولة لورانس أوليفير وجوان فونتين، ساعتان من الحب والجنون والغموض، تكتشف مع النصف الثاني من الفيلم حجم الكراهية والبراعة في إخفاء الجريمة. ريبيكا التي تسيطر شخصيتها على الفيلم رغم عدم ظهورها للحظة واحدة في الفيلم، رُوحها التي تغلف المكان وتصيب البطلة بالجنون عندما تشعر بوجود ريبيكا في كل مكان في البيت ظنـــًا منها أن زوجهـــا مازال غارقـــًا في حبها، حتى نكتشف في نهاية الفيلم أن البطل كان يرغب في قتل ريبيكا ليس بسبب الحب ولكن بسبب الكراهية، وأن ريبيكا في نهاية الأمر لم تُقـتَل بل ماتت بسبب إصابتها بمرض السرطان.
خلال عَقد الأربعينات صنع هيتش 13 فيلمـــًا كانت أفلام Rope وSpellbound وNotorious من أبرزها. كما كان لوجود جيمس ستيوارت وكاري جرانت في كثير من أفلام هيتشكوك مذاقـــًا خاصـًا استمر حتى فترة الخمسينات، وعلى الرغم من وجود هذين النجمين في أفلام عظيمة لهيتشكوك مثل Vertigo وNorth by Northwest إلا أن سطوع نجم هيتشكوك لم يرتبط بممثل ما، في حين كان ألفريد سببــًا رئيســًا في صناعة كثير من نجوم السينما العالمية مثل جريس كيلي التي نذكر لها 3 من أشهر أفلامها Dial M for murder وRear window وTo catch a thief.
كان القتل هو تميمة العِقْدِ في أفلام هيتشكوك، فإمــا أن يكون البطل متورطـــًا في جريمة قتل أو باحثـــًا عن القاتل أو محاولًا تبرئة نفسه من جريمة قتل أو أنه يٌردى قتيلاً في النصف الأول من الفيلم كما حدث فيلم "Psycho"، فالبطلة التي تتركز معها الأحداث منذ المشهد الأول للفيلم تقتل بعد قرابة خمسين دقيقة من بدايته، فتصنع الصدمة والدهشة في نفس الوقت: كيف لبطلة الفيلم أن تُقتل بهذه السرعة؟ استطاع هيتشكوك في مشهد القتل أن يصنع صورة صامتة مثيرة لكل حواس المشاهد لمدة ست دقائق دون أن ينبس الممثلون بكلمة حوار واحدة، مع تركيز واضح على صناعة لقطات مميزة، وكادرات مختلفة قد تشاهدها للمرة الأولى مثل لقطات الحمام التي سبقت مقتل البطلة، تكررت اللقطات القريبة close shots واللقطات القريبة جدًا extreme close shots مع ارتفاع حدة الموسيقى ليزداد معها شعورك كمشاهد بأجواء الجريمة وتشعر بفجاعة القتل وانتقال الرعب إلى جسدك على الرغم من عدم وجود دماء كثيرة.
في فيلم Rope حوار عبقري حول تبرير الجريمة والقتل بين جيمس ستيوارت وجون دال، ونظرية فريدريش نيتشه حول فوقية عرق ما، ومسألة الجنس (العرق) الفوقي التي سيطرت على الألمان فترة الثلاثينات وكانت سببــًا في نشوب الحرب العالمية الثانية.
كان فيلم Vertigo في شباك التذاكر صدمة بالنسبة للكثيرين، كما أن الفيلم لم يحصل على نقد إيجابي، إلا أنه أصبح بعد ذلك واحدًا من كلاسيكيات السينمـــا العالمية، والذي برع فيه هيتشكوك في صناعة فيلم تشويقي على أعلى مستوى، مبتكرًا أسلوبــًا في التصوير كان هو أول من استخدمه وهو الـــ dolly zoom، والذي اعُتمِد عليه في عدد من الأفلام الشهيرة بعد ذلك مثل Goodfellas للمخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي. كانت موسيقى الفيلم لا تقل في عبقريتها عن أفلام أخرى تظل موسيقاها عالقة في الأذهان، كما أنها استخدمت في السينما المصرية في عدد من الأفلام، وهنا يبرز مدى النجاح الذي حققه التعاون بين Bernard Herrmann برنارد هرمان وهيتشكوك سواء في فيلم "فيرتيجو"، "سايكو"، "نورت باي نورث ويست"، "ذا مان هوو نيو تو ماتش".
أما فيلمه North by Northwest فقد اعتبر من أنجح أفلامه على المستويين النقدي والتجاري، حتى جاء بعده فيلم "Psycho" الذي يعتبره النقاد أهم أعمال هيتشكوك والذي أسس لأفلام الرعب بعد ذلك. اعتبر النقاد أن ألفريد وصل لقمة مجده في الفترة من 1953 إلى 1960.
خلال عقدي الستينات والسبعينات أخرج هيتش عددًا من الأفلام الشهيرة مثل "The Birds" و"Marnie" و"Frenzy" إلا أن هذه الأفلام لم تحظ بنفس البريق الذي حظيت به أفلام ألفريد السابقة. إلا أنني أرى أن فيلمه Birds من الكلاسيكيات البديعة في السينما العالمية والذي صنع من خلاله مُناخـًا غامضــًا يثير بداخلك العديد من التساؤلات عن ماهية هذه الطيور المفترسة التي لديها القدرة أن تقتل البشر وتحطم المنازل، ربما كان هذا الفيلم مُلهِمًا فيما بعد لأفلام الخوارق سواء كانوا بشرًا أو كائنات فضائية.
كان ألفريد في معظم أفلامه مهووسًا بالنجمات الشقروات، ولعل هذا بدا واضحًا في اختياره للممثلات، فلم تكن النجومية عاملًا مهمًا في اختياره لهن، بل كان معظمهن مغمورات فبطلة Psycho جانيت لي، أو الممثلة المشاركة لها في الفيلم فيرا مايلز، لم يكن نجمات شباك لكنهن كُن شقروات. كذلك بطلة فيلم Marnie وThe Birds تيبي هيدرن الفاتنة الشقراء التي خفت نجمها بعد فيلميها مع هيتشكوك. كانت السمات المشتركة لهؤلاء النساء هي الجمال الشديد، الفتنة اللانهائية، البرود المثير. وهنا يقول هيتشكوك: "كانت الممثلة الشقراء تصنعُ خلال الحبكة الضحيةَ المثلى، فهن (الشقراوات) مثل الثلج الذي لم تلمسه قدم. هذا الثلج يكشف بصمات القدم الملطخة بالدماء".
في ظني أن ما ميز هيتشكوك عن كثيرين غيره من المخرجين، استخدامه لكتب أو روايات متعلقة بالجريمة والتحليل النفسي، حكايات لم يشارك هو فيها أو في كتابتها، لم ينقل لنا تجربته الشخصية في أفلامه، فمعظم أفلامه تجد أنها معتمدة على كتاب، ففي فيلمه سايكو مثلًا اعتمد على رواية الكاتب الأمريكي Robert Bloch وكذلك في فيلمه فيرتيجو اعتمد على رواية فرنسية باسم D'Entre Les Morts للكاتب الفرنسي Pierre Boileau. أما فيلمه Rear Window فقد اعتمد على قصة قصيرة بعنوان It Had to Be Murder للكاتب الأمريكي Cornell Woolrich.
أخرج هيتشكوك حوالي 53 فيلمـًا، ظهر في 41 فيلمًا لثوانٍ معدودة، سواءً كان جالسًا جانب البطل في الأتوبيس أو مارًا من أمام عربة القطار أو مترجلًا في الشارع. وبالرغم من ظهوره المعدوم إلا أنك دائمًا تتذكر هذه اللقطة قائلًا: "لقد رأيتُ ألفريد!!".
إبداع ألفريد هيتشكوك ارتبط باهتمامه بصناعة الصورة أكثر من الحوار فهنا يقول: "عندما نريد أن نروي حكاية في السينما، ينبغي أن نلجأ للحوار عندما يكون من المستحيل فعل غير ذلك. أحاول دومًا أن أحكي القصة بشكل سينمائي من خلال توالي اللقطات السينمائية".
رحل سيد التشويق في عام 1980 دون أن يحصل على جائزة أوسكار واحدة، مازجًا في تحفه السينمائية بين الرعب والتشويق والجريمة والجمال والجنس والكوميديا.
* Martin Burget Works of Alfred Hitchcock: An Analysis, 2013