مُخرج قد لا يعرفه الكثيرون وقلما نجد وسائل الإعلام تتذكره أو تسرد حياته السينمائية وأعماله الفنية، إنه المخرج الجميل سيمون صالح، ذلك المخرج الذي هاجر من مصر منذ فترة طويلة ومن وقتها لا نعلم عنه أي شيء.
حينما تشاهد سينما سيمون صالح لابد أن تفتح قلبك على مصراعيه لاستقبال كم هائل من العاطفة والجمال الروحي الذي يتركه الفيلم في نفسك والذي يستمر معك لفترة ليست بالقصيرة، هو الاحساس المتعلق دائمًا بالذكريات والأشياء الجميلة التي نحب أن نغوص فيها هربًا دائمًا من الواقع المؤلم المزخم بالحروب والقتل والعنف، كل هذه الأحاسيس والمشاعر تظهر جليًا مع لحظة بدء أفلام سيمون صالح.
تميل غالبية أفلام سيمون إلى الجانب الدرامي البسيط، تلك التي تسببت في جعله بعيدًا عن مصاف المخرجين الأوائل، لاسيما أنه كان في منافسة مع مخرجين أفذاذ وعلى رأسهم صلاح أبو سيف.
بدأ سيمون حياته المهنية كمساعد مخرج للعديد من الأفلام التي يغلب عليها الطابع الرومانسي والكوميدي منهم "السفيرة عزيزة" و"إسماعيل يس في جنينة الحيوان" و"ربيع الحب" و"احترسي من الحب"، وبعد فترة استغرقت تقريبًا 12 عامًا من عمله كمخرج مساعد، أخرج صالح باكورة أعماله الروائية الطويلة "بائعة الحب" عام 1975، و"عذراء ولكن" عام 1977 بطولة نيللي وسمير صبري ومصطفي فهمي وتأليف سيد موسى، الفيلم يدور في جو من الرومانسية الاجتماعية الرقيقة وذلك من خلال قصة "ناهد" الفتاة الحالمة غير المحظوظة في الحب، التي تمر بثلاث تجارب حب فاشلة.
كما أخرج صالح واحدة من أروع أعمال عادل إمام السينمائية على مدار تاريخه العريض، وهو فيلم "الإنسان يعيش مرة واحدة" عام 1981 في تجربة إنسانية كوميدية من الدرجة الأولي، تتمتع بقدر كبير من البساطة، الفيلم بطولة عادل إمام ويسرا وعلي الشريف ومن تأليف الكاتب الكبير وحيد حامد في ثاني تجاربه السينمائية بعدما كتب فيلمه اﻷول "طائر الليل الحزين" 1976.
تدور قصة فيلم "اﻹنسان يعيش مرة واحدة" في إطار رومانسي درامي تبدأ مع شخصية الطبيبة الجميلة أمل (يسرا) التي ينتابها شعور بالذنب نحو فقدان حبيبها معتز (حاتم ذو الفقار) فتسيطر عليها حالة من الكآبة تجعلها تقرر الابتعاد عن كل مصادر السعادة والهروب إلي الوحدة الصحية بـ(السلوم) في محاولة منها لمعاقبة نفسها، من جهة أخري يتناول الفيلم قصة هاني (عادل إمام)، مدرس التاريخ السكير الذي يلعب القمار مع أصحابه كل ليلة وغير المبالي بأي شيء يحدث حوله، والذي يتم معاقبته بسبب نومه أثناء الحصة بالنقل إلى الإدارة التعليمية بـ(السلوم)، رفض هاني الانصياع للأوامر في بادئ الأمر ولكن بضغط من زميله شوقي (شوقي شامخ) اضطر للسفر.
كانت أولي المواجهات بين البطل والبطلة داخل القطار المتجه لمرسى مطروح وبداية الحديث كانت مع خداع هاني لرئيس القطار وإقناعه أن أمل هي حفيدة القائد الألماني رومل، "تاخدي قرص منوم ومعايا أقراص تصحي ومعايا كمان أقراص للضحك بس معنديش أقراص للحزن عشان دا موجود طبيعي" هذه الجملة يقولها هاني موجهًا كلامه لأمل داخل عربة القطار وهي بمثابة أول لقاء روحي بينهما.
وبين حالة الميلودراما التي عشناها مع الدكتورة أمل تارة وتارة أخرى بفواصل الضحك الساخرة التي عشناها مع المدرس، يوضح مشهد القطار بشكل كبير مدى التناقض بين حالة الشخصيتين في هذه الفترة فكل منهما قادم من عالم مختلف، الشخصية الأولي (أمل) مكتئبة وبائسة والشخصية الثانية (هاني) مستهتر وعبثي وكثير الكلام، وعلى الرغم من هذا التناقض الكبير نجد خيطًا رفيعًا يجمع بين مصيرهما ألا وهو الحب.
استند الفيلم على نص درامي محبوك، ألفه ببراعة وحيد حامد، حيث أضاف شخصيات أخرى كلا منهم لديه سبب مختلف للترحال، لتخدم الدراما وتساعد في الوصول لذروة الأحداث مثل شخصية بكري الصعيدي غفير المدرسة (علي الشريف)، ليمثل تأثيرًا قويًا في سير الأحداث.
وربما يكون هو أقوى حالة درامية في الفيلم ذلك لأن مصيره كله مرتبط بشخص آخر يدعى هريدي (نعيم عيسى) يريد قتله للأخذ بالثأر منه، هذا ما يجعله مسافرا في بلاد الله بعيدًا عن أهله وقريته.
نجح وحيد حامد في خلق الصراع الأول الذي يبني عليه أحداث مقبلة وهو صراع بكري مع الخوف، ما شاهده بكري في حياته المليئة بمشاعر الغضب والخوف والحنين جعلت منه رجلا حكيما فطنا "الستات دول يابني زي الشمس نحبها أيام ونكرها أيام لكن عمرنا مانقدر نستغني عنها"، هذا هو رأي الصعيدي الأمي عندما سأله هاني عن رأيه في النساء، في عز لحظات بؤسه نراه يضحك مع هاني ولكن نرى أيضًا من بين ملامحه الحادة مشاعر الحزن والخوف والغصة التي تلازمه والتي طالما حاول أن يخفيها دون أن يفلح.
نجح علي الشريف من الوصول إلي نقطة النضج النفسي التي مكنته من أداء شخصية الصعيدي الهارب من الثأر بكل رصانة وتقمص، شخصية بكري الصعيدي تنم بكل تأكيد عن ممثل خلاق يقف علي أرض صلبة من محصلة خبرته الحياتية والثقافية.
أما الصراع الثاني فكان صراع دكتور طارق (زين العشماوي) مع ذاته بعدما حاول أن يتقرب من أمل والإيقاع بها لتصبح مجردة ضحية جديدة من ضحاياه ولكنه فشل في ذلك.
تألق عادل إمام في أدائه لشخصية هاني وشعرنا بأننا نراه في بيوتنا وشوارعنا وأهم ما كان يتصف به في هذا الفيلم هو القرب من الناس والبساطة في التمثيل بعيدًا عن التصنع، فلم يقدم النمط المستهلك أو الساذج في قصص الحب التقليدية.
"الإنسان يعيش مرة واحدة" هو بداية مرحلة توهج وتألق لعادل إمام وصل لقمتها في منتصف الثمانينات مع عدد من مخرجي تيار السينما الجديدة، كما جاءت يسرا في دور شديد العذوبة، وبأقل تكلفة، تمكن سيمون صالح من نقل حياة المدينة الصغيرة المملة بعض الشيء على الشاشة كما صَدر لنا عدد كبير من مشاهد الطبيعة الخلابة ومشهد البحر. وساهمت موسيقى جمال سلامة في الإعلاء من شأن الفيلم بشكل كبير وخلق حالة وديعة لروح المشاهد.
لم يخل مشهد المعركة الأخير من الطرافة والسخرية التي يبثها عادل إمام طول أحداث العمل. لا ينتمي الفيلم إلي السينما التجارية التي تعني بشباك التذاكر في المقام الأول بل ينتمي إلى الدراما الشاعرية.
وفي النهاية حاولت أن لا أقدم تغطية نقدية شاملة حول الفيلم بل حاولت من خلال حديثي عنه أن أستعيد أيام جميلة قد مضت، وأنا أعلم تمامًا أن عدد كبير من النقاد والمعنيين بالفن السابع ينظرون إلى هذا الفيلم بعين من التجاهل لأنه لا يتضمن بين طياته أي أبعاد سياسية.