تنويه: تحتوي هذه المقالة على كشف لأحداث الفيلم
في الفيلم الروائي السادس (ولاد رزق) للمخرج طارق العريان، والثاني له في نفس العام بعد (أسوار القمر) الذي عرض في وقت مبكر من العام الحالي، يعاود طارق زيارة ومغازلة واحدة من تيماته الدرامية المفضلة لديه، وهى جذور النزعات الإجرامية وقوانين عوالم الجريمة السرية، خاصة في المناطق المحرومة، وهى التيمة التي اتكأ عليها سابقًا في فيلم (الامبراطور) الذي اقتبسه عن الفيلم الأمريكي Scarface، وفي فيلم (تيتو) للفنان أحمد السقا.
وعلى ذكر فيلم (تيتو)، كان هذا الفيلم يحاول قدر المستطاع أن يوازن الأمور - وإن لم يوفق - بين الطرح الإجتماعي الذي يصبو لتقديمه حول الأطفال الذين ينشأون بالملاجيء ودور رعاية الأحداث وعما يصيروا عليه، وبين القالب الحركي ذو الروح المتأمركة التي يجلها العريان دومًا، وهو ما عززه داخل الفيلم بالتكثيف من استخدام الحركة البطيئة.
أما في (ولاد رزق)، فيبدو للوهلة الأولى أن الأمور تتحرك على نحو مغاير، لا يوجد هنا هم اجتماعي ملح مثل (تيتو)، التتابعات الحركية أقل وذات إيقاع خاطف، والأهم بالطبع هو تفضيل العريان للعب دراميًا أكثر من اللعب حركيًا على خلاف عادته السابقة، وهذه اللعبة هى مربط الفرس هنا.
يختار طارق العريان أن يؤسس لعبته السردية لكي تبدو للوهلة الأولى وكأنها مجرد أمر روتيني يأتي بدون تخطيط، حيث يسير الفيلم متوازيًا بين الحوار الدائر بين عاطف علي سرحان (أحمد الفيشاوي) وضابط الشرطة رءوف حمزاوي (محمد ممدوح)، وبين قصة ولاد رزق كما تُحكى من وجة نظر عاطف منذ الطفولة وحتى آخر عملية كانوا ضالعين بها.
بالنسبة للمشاهد المتمرس في مشاهدة الأفلام، فأعتقد أنه لن يجد أية صعوبة في توقع النهاية، بل وسيصل سريعًا للاستنتاج الحتمي بأن الفكرة الرئيسية التي يؤسسها الفيلم وصولًا إلى "التويست" الأخير مأخوذة بشكل شبه مطابق من الفيلم الأمريكي الشهير The Usual Suspects مع إضفاء بعض التعديلات وصبغها بالصبغة المصرية، نفس فكرة الشخص الذي يبدو ساذجًا وطيبًا وعلى سجيته تمامًا والذي نعرف مع نهاية الفيلم أنه ليس كما رأينا طوال الفيلم، وأنه كان يتلاعب بالضابط كل هذا الوقت لكي يكمل خطته التي وضعها، وإذا لم تشاهد The Usual Suspects حتى الآن، فشاهده لكي تدرك التطابق الذي أتحدث عنه.
الأزمة الأكبر أن طارق العريان وصلاح الجهيني ربما كانا يدركان أن المشاهد الخبير قد يفطن لهذا التشابه الكبير، فهداهم التفكير إلى اللجوء إلى ألعاب أخرى يمكن تضمينها في نفس السياق من أجل لفت الانتباه بعيدًا عن هذه النقطة، فعلى خلاف تيتو مثلًا، يستهلك الفيلم معظم مدة نصفه الأول لكي يستعرض معنا مظاهر الحياة اللاهية التي يعيش فيها الأشقاء الأربعة دون توقف مع عشرات النساء وزجاجات ستلا التي لا تنقطع عن البيت بالإضافة إلى عشرات "الجوينتات" التي يستهلكوها لاستكمال الأجواء، فيحسب المشاهد أنه كان على ظهر عوامة (ثرثرة فوق النيل)!
ومع حلول تتابع السطو على صالة القمار التي يخطط لها الأشقاء الثلاثة، يقع العريان والجهيني في أزمة ثانية مع المشاهد المتمرس، حيث يستعير المخرج في هذا التتابع بالذات الكثير من المفردات البصرية والإيقاعية التي تميز المخرج البريطاني جاي ريتشي في أفلامه كافة التي يأتي على رأسها فيلمي Lock, Stock and Two Smoking Barrels وSnatch: مؤثرات لونية فاقعة وحادة، إيقاع مونتاجي لا يهدأ، حتى أنماط الشخصيات التي لا تجدها إلا في أفلام ريتشي يتم إعادة إنتاجها هنا من خلال شخصية شربيني (محمد لطفي).
كل ما سبق قد يمكن تمريره، لكن ما استغربه بشدة هو لجوء طارق العريان لحل درامي استخدمه بالفعل في فيلمه السابق مباشرة للمرة الثانية على التوالي، وهو تبدل هويتان مع بعضهما البعض، ومن كنا نظنه ساذجًا طوال الوقت فهو كان داهية في الحقيقة والعكس صحيح مع الشخص الآخر، وهى نفس المفاجأة التي تقابلها الفتاة الضريرة في نهاية فيلم (أسوار القمر) بالضبط، ألا يمكن أن يكون هذا إفلاسًا فكريًا وإبداعيًا فادحًا؟
إذن، مع الفحص الدقيق لكل الألعاب التي يتكون منها الفيلم، ستجد أنها مجرد ألعاب مستعملة تم استنفاذها من قبل، وقد تغري المشاهد غير المتمرس في المشاهدة أو في كتابة السيناريوهات، بينما من يخرج من هذه الفئة السابقة، فسوف يكتشف اللعبة برمتها من اللحظة الأولى، وقد يواصل المشاهدة فقط لأجل خاطر اللمحات الكوميدية المكثفة في جنباته.