(1)
كان المخرج حسن الإمام يستعد لإخراج الجزء الثاني من ثلاثية نجيب محفوظ (قصر الشوق) وكان نجاح الجزء الأول طاغيًا حتى أنه لم يفكر في تغيير أيٍ من أبطال الجزء الأول الذي ترسخ لدى عقول المشاهدين صورهم ولكن كان هناك شخصًا واحدًا لابد وان يتغير بحكم تغير المرحلة الزمنية وهو "كمال عبد الجواد"، الطفل الذي سيكون على أبواب مرحلة الشباب ولكن لم يجد الإمام أي شخص يصلح لأداء الدور المعقد والذي يعتبر ركن الرواية الحقيقي بل أن البعض يرى أن الكاتب الكبير جسد شخصيته وطفولته في هذه الشخصية، فأشار عليه الفنان عادل إمام بأنه رأى في عرض مسرحية تخرج دفعة معهد فنون المسرحية هذا العام، 1967 وقتها، شابًا قد يصلح للدور، ففضلًا عن موهبته التي أهلته ليكون أول الدفعة بتقدير امتياز، فأن مواصفاته الشكلية قريبة جدًا من الشخصية، وعندما شاهده حسن الإمام اقتنع به وأعطاه الدور ليكون البداية.
اللافت في الحكاية أنه عادةً عندما يلمع نجم ممثل ما، يبدأ في الهروب من بداياته والتنصل ممن ساعدوه، ولكن نور الشريف لم يجد غضاضة أبدًا في الاعتراف بهذه الحكاية وذكرها دومًا، بل لم يجد حرجًا من ذكر طفولته المتواضعة أو ذكر أخطاؤه.
(2)
ظل محمد جابر الذي صار نور الشريف فيما بعد، عامًا كاملًا بالمنزل بعد عرض فيلم "قصر الشوق"، فقرر الاشتراك في أفلام تحقق له الانتشار بغض النظر عن قيمتها الفنية المتواضعة، وما لبث المخرجون أن انتبهوا لهذا الشاب ذو الوجه المليح فبدأ يدخل في دائرة الـ"بلاي بوي" والتي ظل "نور" أسيرًا لها لسنوات، وإن حرص على تقديم خط آخر في أعماله يسمح له بتقديم موهبته بشكل جيد، وهو ما ساعده بعدها على العودة وتقديم الأدوار التي رُسخت في تاريخه وذاكرتنا، ولو كان انجرف للسوق وترك نفسه لمنتجين السينما يتقاذفونه في أفلام تعطيه انتشارًا ونجاحًا لحظي، لم يكن ليصل لشيء، فالموهبة وحدها لا تكفي للاستمرار ولكن الذكاء في تقديم هذه الموهبة واستثمارها إلى جانب ثقافة الاختيار هي ما دفعت نور الشريف ليكون احد أعمده السينما المصرية فيما بعد.
(3)
بعد "قصر الشوق" بعدة أعوام، أراد حسن الإمام أثناء تصوير فيلم "السكرية" الدفع بابنه "حسين" في دور معقد جدًا هو أحمد شكري، الشاب اليساري المتحدث بأفكار العدل والمساواة والاشتراكية، يومها أعلن نور عن رأيه بأنه يرى حسين لا يصلح لهذا الدور فروح حسين المرحة تجعله بعيدًا جدًا عن مقومات شخصية جامدة كتلك، فغضب منه حسن الإمام وظن أن نور بعد أن أصبح نجمًا نسى فضله في تقديمه وأنه يغار ربما من نجاح ابنه في تلك الشخصية، وظل متجنبا الحديث معه حتى أتى أول مشهد لشخصيه كمال عبد الجواد الذي بلغ الخمسين في أحداث الرواية بينما كان نور وقتها في الخامسة والعشرين من عمره وتأخر نور في المكياج قليلا فثار الإمام واخذ يصرخ "أين هذا الممثل الفاشل، عايز أشوف هيعمل إيه بقى في الدور ده"، ودخل نور البلاتوه فلم ينتبه حسن الإمام إليه وظنه فعلا عجوزا في الخمسين من موظفين الاستديو ولما ذهب إليه نور واعتذر عن التأخير، بكى حسن الإمام من علامات الزمن التي رسمها المكياج على وجه نور وأيضا من تقمص نور للشخصية بهذا الشكل من نظرة العين والانحناء قليلا والصوت، فقبله وتصالحا، وهنا تعلم "نور" أن إتقانه لعمله هو الوسيلة الوحيدة التي تتيح له فرض رأيه ووجهه نظره وهي سبيله للاعتذار عن أى خطأ غير مقصود منه.
(4)
لم يكن نور الشريف يرى نفسه ممثلًا فقط للأدوار والشخصيات، ولكنه من بين أبناء جيله كان الأكثر وعيًا لمفهوم السنيمائي وهو خط طويل بدأه يوسف وهبي ومن بعده أنور وجدي وفريد شوقي ومن بعدهم نور. والسينمائي هو الفنان الذي تشغله الصناعة فلا يحرص فقط على إتقان أدواره ولكنه يستثمر أمواله أيضًا في تلك الصناعة فضلا عن تقديم أفكار جديدة وممثلين ومخرجين، فهو يحاول دوما إثراء ألصناعة وتقديم الأفضل، فأنتج "نور" العديد من الأفلام المهمة وقدم للسينما نجوما آخرين في التمثيل والتأليف والإخراج مثل سمير سيف ومحمد خان وعاطف الطيب وبشير الديك، كل هؤلاء وآخرين أعطاهم نور الفرصة الأولى لتقديم أفكارهم وأنفسهم إلى المشاهدين، ولم يفرض نفسه وقتها على الفيلم بمفهوم النجم أو حتى المنتج وإنما كان يترك للمخرج حرية الإبداع فهو يعلم أنه أداة في يد المخرج وليس العكس، فأبدع وقدم أروع الأفلام التي أثرت المكتبة السينمائية.
(5)
عمل نور الشريف في العمل الفني منذ عام 1967 إلى 2015، أي قرابة الخمسين عامًا، كان فيها صديق للجميع ومن مختلف الأجيال بتعامله المحترم معهم، فلم يكن لديه عقده النجم الأوحد، وعندما شارك في البطولات الجماعية كان السؤال السخيف الذي طالما يتكرر في تلك الأعمال من يسبق اسمه الآخر، و هو سؤال أجابه نور ببساطة.. "اللي أجره أكبر مني يسبقني على الأفيش". وبالفعل كانت تلك قاعدة سار عليها دوما منذ بداياته.
ويُحكى أن يومًا ما كان أحمد زكي هو المرشح لبطولة فيلم "الكرنك"، ولكن اعتراض الموزعين على أن يقوم شاب أسمر ببطولة الفيلم وأن تجمعه علاقة حب مع سعاد حسني ذهب بالدور إلى نور الشريف، وثار زكي بسبب ذلك وحاول الانتحار يومها، وعلم الشريف بهذا فذهب إلى أحمد زكي واستأذنه وقال له "لو قلت لا ما تعملش الدور مش هعمله"، ويومها كان أحمد زكي ممثلًا صغيرًا وكان نور هو الفتى الأول، ولكنه لم يضع في اعتباره حسابات النجومية ولا من هذا الذي أذهب إليه! فلم يكن نور أبدًا أسيرًا للأنا.
فقدنا نور أحد أعمدة السينما وأحد الذين أثروا وأثّروا في حياتنا بأعمالهم وأفلامهم، التي استحقت 7 أفلام منها الدخول إلى قائمة أحسن أفلام السينما المصرية ليحتل بهم صدارة التصنيف كأكثر الرجال مشاركة في تلك القائمة واستحق عنها المكانة التي وضعه فيها بعض النقاد كأفضل ممثل في تاريخ السينما المصرية.