مع الدقائق الأولى للفيلم كانت القاعة تضج بالضحك، وانتهى الفيلم بعد قرابة الساعتين وظلت القهقهات تملأ السينما من فرط الكوميديا التي يعج بها الفيلم.
صورة سينمائية عن قدراتنا العادية التي تتحول إلى طاقة جامحة من الصعب إيقافها عندما نصاب بضغط نفسي وعصبي لأوقات طويلة، يحكي الفيلم ست قصص تدنو من النفس البشرية.
Relatos salvajes أو Wild Tales أُنتج عام 2014 ورُشح في حفل الأوسكار 2015 لأفضل فيلم أجنبي غير ناطق بالإنجليزية. إخراج وكتابة الأرجنتيني داميان سيفرون.
الفيلم حكاياته بسيطة للغاية، تنقل مشاعرك إلى قمة الضغط النفسي والإحباط في لحظات، ثم ترتفع بك إلى حالة من النشوة الكاملة في لحظات أخرى. العلاقات الإنسانية المتشابكة، التي قد يتولد عنها انفجار في لحظات، لا يبدو أن شخصياتنا الهادئة المتعقلة أن تفعلها، علاقات بين شخصين أو أكثر، علاقة بين الدولة والمواطن، صراعات تأتي بنا إلى نهايتنا أحيانــًا.
كلما انتهت قصة من القصص الست، تشعر تلقائيــًا أنك انغمست في غمار القصة الجديدة، وكأنك بطلها، يتصاعد بك منحنى الشعور حتى يصل إلى ذروته، ثم مع نهاية القصة تهدأ نفسك للحظات، ثم تبدأ المعركة من جديد في حلبة حكاية أخرى. فالقصص وإن انفصلت في حبكتها وتفاصيلها إلا أن اتصلت جميعــًا بالحالة النفسية التي تجمع أبطالها.
تخيل نفسك شخص مُضطهد من دوائر العلاقات الإنسانية المحيطة بك، صديقتك تخونك مع أقرب أصدقائك، أستاذك في الجامعة دمر مستقبلك الأكاديمي والمهني لعدم اقتناعه برسالتك العلمية التي قدمتها، طبيبك النفسي يستغلك ماديــًا طوال الوقت دون تقديم علاج حقيقي.
الحل: ابتكر حيلة لكل من تسببوا في أي جرح نفسي لك، اجمعهم في مكان واحد، وفكر في العقاب المناسب كي تقر عينك!
الصراع الدائم بين فرد ومجموعة، قد تكون هذه المجموعة دائرة قريبة منك، وقد يكون المجتمع من خلال القيود التي يصنعها كل يوم. في كثير من الأحيان تنتصر المجموعة، وقد ينتصر الفرد أيضــًا وغالبــًا ما يكون انتصاره دمويــًا لأن المجموعة تظنه ضعيفــًا غير قادر على فعل شيء! صراع بين رجل وإمرأة، الرجل فاسد، يتلذذ بإفساد حياة الآخرين وإذلالهم، لديه نفوذ وسلطان. المرأة مستضعفة لا تملك شيئًا في يدها سوى أن تهين ذلك الرجل.
الحل: طرف ثالث يدعم هذه المرأة المستضعفة وغالبــًا ما ستكون إمرأة قوية جدًا تفكر وتنفذ خطة الانتقام من ذلك الرجل الجائر.
أصحاب المال والنفوذ في العالم يحصلون غالبــًا على كل شيء، والغريب أن متعتهم تكون مفرطة عندما يقتنصون شيئــًا من شخص بسيط لا يملك سوى قوت يومه، هؤلاء الأشخاص الضعفاء تكون لحظات انتقامهم غير متوقعة وأكثر دموية لأنه يكون قد فقد الأمل في حياة أدمية! رجلان، صراعهما يتطور سريعــًا بسبب العبث على الطريق، أحدهما قد نراه مختلاً عقليــًا، والآخر يبدو عليه الوجاهة والهدوء، إلا أن الضغط النفسي يخلق شخوصــًا أخرى أكثر عنفــًا، لنرى الرجلين في النهاية داخل سيارة بعد أن أكلت النار أجسامهم.
الحل: بالطبع أن تأتي الشرطة لمكان الجريمة بعد وقوعها كالعادة، ثم يبدأ المحققون تفسير سبب حدوثها.
رجل يواجه الدولة بكل بيروقراطيتها، مآله في النهاية هو السجن، والتهمة؟ إرهابي! هذه الحكاية كانت حقيقية جدًا بالنسبة للمشاهد المصري أو العربي بشكل عام، فهو يرى معاناة شخص في ركن سيارته التي يحملها الونش، فيدفع غرامة كبيرة. مشهد الكوبرى المزدحم والذي لا ترى معه سببــًا لهذا التكتل المروري فتشعر معه أن حياتك قاربت على النهاية، فوقتك المستهلك على الطريق يوميــًا لا يقل عن 4 ساعات.
الحل: تفجير البيروقراطية وكل ما يمت لها بصلة، ثم تدخل السجن فتشعر أكثر بالراحة والحرية.
فساد رجال القانون إثر قضية قتل متورط فيها نجل أحد الأثرياء، المحامي والمحقق يتورطان مع الرجل الثري من أجل إخراج ابنه من القضية، لكن الرجلين يبتزان المليونير من أجل مال أكثر.
الحل: ترفض العرض بالكامل، وتطالب ابنك بتسليم نفسه للعدالة حتى يقدم الرجلان تنازلاً أكبر، ثم بعد ذلك تضحي ببساطة بأحد الفقراء فيدخل السجن بدلاً من ابنك.
المرأة الهادئة التي يبدو عليها السذاجة عندما ينظر إليها حبيبها، قد تتحول إلى زوجة متنمرة حال رأت خيانة زوجها لها أمام عينيها ليلة زفافهما.
الحل: أن تحول الزوجة حياة زوجها لجحيم حتى يتعادلان، ثم يكملان زفافهما!
امتزجت الضحكات في الفيلم بالغضب الشديد والانزعاج من مشهد قتل أو رد فعل لا نتوقعه من شخص يبدو عليه الهدوء. في كثير من الآحيان عندما نشاهد السينما ونعتاد رؤية قاتل محترف يمارس مهنته لا ننزعج كثيرًا، لكن عندما نرى نفس الفعل من شخص لا يمتهن القتل كحرفة، تكون المسألة أكثر صعوبة في استساغة النفس لها.
الكوميديا التي لم تتوقف طوال الفيلم امتزجت بكل المشاعر الجامحة لتصنع كوميديا سوداء بامتياز. فصرنا نضحك ونرغب في البكاء في الوقت نفسه، لأننا نرى أنفسنا في كل مشهد من مشاهد هذا العمل.
Tranquila الكلمة الأكثر ترديدًا في الفيلم والتي تعني الهدوء، فدائمــًا البطل يكون على حافة الانفجار، فيطالبه المحيطون بالهدوء حتى لو كان هدوءًا مفتعلًا.
تتر البدايات وارتباط أسماء فريق العمل بصور حيوانات تعيش في الغابة، كان فيه من البلاغة السينمائية ما يكفي أن تعكس طبيعة شخصية كل فرد في العمل، فمثلاً كان المخرج يجسد صورة الثعلب وكان لذلك دلالة وفق رواية سيفرون إذ أن والده كان يحب مشاهدة الأفلام التسجيلية الخاصة بالثعالب كثيرًا، كما أنه يرى أن المخرج يشبه الثعلب في نظرته، كلاهما يمتلك النظرة الثاقبة تجاه عمله.
من المثير أيضــًا أن نعرف أن المخرج وكاتب الفيلم داميان سيفرون كتب معظم قصص الفيلم في الحمام وهو مستلق في حوض الاستحمام مضيئــًا الشموع.
الموسيقى التصويرية، مليئة بالحياة وكل تقلباتها، الخوف، السقوط، النهوض، الشجاعة، الإحباط. عكست وببراعة قدرة Gustavo Santaolalla على خلق أجواء تجذب معها المشاهد من الدقائق الأولى.
هذا الفيلم لا يُعرض سوى في مكان واحد في مصر، سينما زاوية بوسط القاهرة، والتي تحاول أن تقدم سينما مختلفة عن الأفلام المنتشرة في كافة السينمات الأخرى، فسينما أمريكا الجنوبية بشكل عام سينما مميزة تتماس مع قصصنا اليومية في العالم العربي والشرق الأوسط، وأبطال الحكايات يشبهوننا للغاية. ففي هذا العمل لم نشاهد بطلاً ملامحه تختلف عنا كثيرًا، بل تشعر أنه قريب منك بسبب التشابه مع الملامح الشرقية.
أهمية عرض هذا الفيلم أنه يفتح عيوننا على سينما جديدة لم نعتد مشاهدتها، بعد أن أسرت هوليوود عيوننا بحكايات الخوارق والأساطير والأبطال الذين لا يُهزمون. هنا في أمريكا اللاتينية نرى الأبطال الذي يقعون ثم يقومون مرة أخرى، أشخاص عاديون مثلنا قد نتوحد معهم لكثرة الشبه بيننا وبينهم، لا نجد صعوبة في أن نعترف لهم بلحظات ضعفنا وانكسارنا التي تتكرر كل يوم دون خجل.