لو كنت من المتبحرين في مجال الفن التشكيلي وتاريخه، فسوف يلفت نظرك أعمال لعدد من "الفنانين" المعاصرين منهم بارنيت نيومان وري تومبلي ومارك روثكو الذين يعدون أنفسهم ممثلين لتيار فني يعرف بالتعبيرية التجريدية، لكن ما سيجذب انتباهك ليس شيئًا فريدًا في هذه الأعمال على الإطلاق، بل هذا الخواء الكبير والإدعاء بتقديم فن، أو ما أعتبره "الكسل متنكرًا في هيئة عمل فني"، فبارنيت نيومان - على سبيل المثال - لا ترى شيئًا في لوحاته سوى لون واحد في الغالب مع بضعة خطوط طولية فقط، وهذا كل شيء ستجده في لوحاته.
لن نستطيع وصف فيلم "في يوم" للمخرج كريم شعبان بأنه فيلم فعلي، بل هو مجرد إدعاء بصنع فيلم، وذلك بسبب احتوائه على كل كليشيهات المراهقة الفنية التي تغلف الأفلام المبكرة لطلبة المعاهد السينمائية من حيث محاولة إيهام صانع الفيلم للمشاهدين بأن الفيلم الذي يصنعه ينطوي على الكثير من العمق الفني والبصري بينما هو في الحقيقة فيلم فارغ فراغًا مخيفًا.
لنبدأ بالصورة، ما الذي يختلف في هذا الفيلم بأي حال من الأحوال عن الـVideo Art؟ لماذا تبدو الصورة خاوية تمامًا من أي معني حتى مع بريقها وجاذبيتها الشديدة بشكل يليق أكثر بالإعلانات التليفزيونية؟ إن محاولة تسجيل مجموعة من الأفعال الروتينية اليومية مثلما يفعل هذا الفيلم ووضعها على شريط سينمائي لا يصنع بالضرورة فيلمًا "فنيًا" أو "عميقًا" أو أيا كان المسمى الذي يروق لصانع الفيلم.
وحتى إذا كان قصد المخرج كريم شعبان أن يمنح صورة فيلمه حسًا تسجيليًا، فلا أعتقد أنه قد نجح في ذلك أيضًا، لأن حتى التسجيل يجب أن يكون له هدف ومغزى ورغبة في سرد شيء ما، وليس فقط التسجيل لمجرد التسجيل نفسه، ولا أن يكون مجرد حلية فنية براقة.
إن الطريقة المستفزة التي يقوم بها المخرج بنقل كل الأحداث المحورية إلى شريط الصوت مع ترك الصورة خاوية هكذا هي طريقة غير ناضجة فنيًا وتنطوي على الكثير من المراهقة الفنية، خاصة أننا في الصورة لا نرى الأبطال يفعلون شيئًا ذو معنى، ستجد أحدهم يتجول في الطرقات، ومنهم من تحتسي كوب النسكافيه الذي تحمله بين يديها، ومنهم من ينظر مطولًا في المرآة، ومنهم من تجلس فوق السرير تطالع الصور، ومنهم من يقود السيارة ولا ينبس ببنت شفة طوال الطريق.
لا أحتاج لأن أقول بأن محاولة السرد اعتمادًا على شريط الصوت فقط هى بالفعل محاولة كسولة لخلق شيء من الدراما إلى صورة ميتة وليست ساكنة فقط، وهو أمر يدفع للمشاهد بسؤال منطقي: أليس ما فعله الكاتب والمخرج للتو شيئًا بالغ السهولة لدرجة أنه يمكنني أن أصنع شيئًا مماثلًا، يكفي فقط أن أضع كاميرا، وأجمع عدد من الممثلين ليقفوا في شرفة المنزل أو ليحملقوا في المرآة، وهي أشياء لا تتطلب أي عناء أو مجهود من الممثلين.
بل حتى اللقطات الوحيدة التي تحاول أن تقول شيئًا، والتي يقوم فيها أبطال الفيلم بحمل تابوت محاط باللمبات الكهربائية إلى المثوى الأخير، تنطوي على رمزية ساذجة وفجة للغاية، خاصة إذا وضعنا في الحسبان أن مشاكل أبطال الفيلم يمكن إدراجها بكل سهولة في خانات عامة يمكن إحالتها لما يعانيه المواطنون في مصر: الهجرة غير الشرعية، التحرش الجنسي، تعنت الأجهزة الأمنية، الحقوق الضائعة للشهداء، تدهور القطاعات الحيوية.
وعلى الرغم من قصر مدة الفيلم، فهو لا يتجاوز الساعة سوى ببضع دقائق قليلة، إلا أنني قد حمدت الله على انتهاء عرضه، فالأمر لم يكن ليحتمل دقيقة واحدة زائدة، يكفي أن الكثيرين من مشاهدي الفيلم في المسرح الصغير اليوم قد نحوا الفيلم جانبًا وأخذوا يتصفحون هواتفهم الذكية وحواسيبهم اللوحية لحين انتهاء الفيلم، ومنهم من لم يصمد بعد أول 15 دقيقة وخرج من القاعة ليتنفس الصعداء تاركين إيانا في هذه المعاناة.