المُولد، ذلك العَالم الساحر، الذي يُغلّفُه الغُموض، وتكتنفه الأساطير والحكايات التي لا أول لها ولا آخر.
صوت المنشدين، ودعاء المُريدين، ورغبات المحبين.
وقوف على الضريح رجاء العفو عن الخطايا. قُبلة على أعمدته طلبًا للذرية التي تاقت النفسُ لُقياها.
موالد كثيرة تعج بها أرجاء المحروسة من أقصاها إلى أقصاها، من مُولد السيد البدوي وإبراهيم الدسوقي شمالًا، حتى عبد الرحيم القناوي وأبو الحجاج جنوبــًا.
"الليلة الكبيرة"، ليلة تلبية المطلب، والتقرب إلى الله والتودد إلى العارف بالله. قد تأتي قبلها بأيام، تفترش الأرض وتلتحف السماء من أجل نفحة من نفحات سيدنا الولي.
"الليلة الكبيرة"، ذلك الأوبريت الخالد الذي صنعه العبقريان صلاح جاهين وسيد مكاوي منذ عقود، لا نستطيع أن ننساه سواء كُنا ممَنْ حضروه سنة إنتاجه، أو ممَنْ شاهدوه على التلفاز، واستمتعوا بالكلمات والألحان حتى يومنا هذا، بل أن كثيرًا منا يردد كلماته في خضم الأحاديث اليومية.
ولأن فيلم "الليلة الكبيرة" الذي عُرض في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي خلال الأيام الماضية، ذَكَرّني بذلك الأوبريت العظيم، لم أجد سوى الاستعانة ببعض كلماته الآسرة للحديث عن فيلم اليوم.
"أنا شجيع السيما، أبو شنب بريمة أول ما أقول هالي هُب وأصرخ لي صرخة، ها ها ها، السبع يتكهرب ويبقى فرخة"
ربما هذا ما أراد أن يقولَه سامح عبد العزيز في فيلمه الجديد مع أحمد عبد الله الذي شكل معه ثنائيــًا منذ سنوات. محاولة حيية من عبد العزيز ورفيقه من أجل اقتحام هذا العالم المزدحم بقصصه وأشخاصه.
ربما تعتبر هي المحاولة السينمائية المصرية الأولى - إن لم أكن مخطئــًا- التي حاولت أن تجعل المولد هو محور الحدث، فالأفلام التي تحدثت عن الموالد مثل فيلم "المُولد" لـعادل إمام ويسرا، أو تمر حنة لـرشدي أباظة ونعيمة عاكف، لم تقترب بشدة من هذا العالم.
إلا أن محاولة الثنائي - الذي قدم لنا من قبل فيلمي "كباريه" و"الفرح" - جاءت هذه المرة مشتتة. ركضا سريعــًا من أجل التماس بكل شيء لكن دون الإمساك بأي شيء.
وهنا نتذكر من الأوبريت: "يا ولاد الحلال بنت تايهة طول كدة، رجلها الشمال فيها خلخال زي ده... زحمة يا ولداه، كام عيل تاه".
هكذا كان حالي وربما حال بعض مَنْ شاهدوا الفيلم، تائهين غير ممسكين بخيوط الحكاية. لا أعلم هل كان هذا مقصودًا، أن نتوه في زحمة الأحداث، كما يحدث في الموالد؟ فأثناء سَيرَكَ في المُولد من الصعب أن تركز على شيء واحد، يسهل تشتيتك بين العديد من الأشياء في نفس اللحظة. هل أراد عبد العزيز وعبد الله أن يفعلا ذلك بنا حتى نفهم رُوح المولد؟ لا أظن!!
"ههه سعيدة.. يا ابو بدلة جديدة"
هل حاول المخرج والمؤلف ارتداء بذة جديدة من خلال هذا العمل؟ لا أتخيل ذلك، فتيمة الزمن والمكان المحدد والمحدود التي لعبها كلاهما أكثر من مرة لم تختلف.
أعجبني الفرح وكباريه، ربما كانا في وقتهما جديدين. لون غير معتاد في السينما المصرية، لكن هذه المرة بدون أي ذكاء من المشاهد ستجد شخصية المخرج والمؤلف طاغية بشكل مبالغ فيه.
إيقاع أسرع من اللازم، محاولة صناعة كوميديا من خلال بعض الوجوه المألوفة بالنسبة لنا منذ سنوات مثل عمرو عبد الجليل، فبات "الإفيه" متوقعًا مع نهاية كل جملة، مما يؤهلك تلقائيــًا للضحك، ليتحول من متعة إلى عادة.
"الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كتيرة"
لعبة الشخصيات المتعددة التي لا يوجد بينها بطل، مُحببة إليّ لأنها تكسر نمطية البطل الواحد سواء كان خيرًا أو شريرًا.
نجح أحمد عبد الله في فيلم الفرح - مثلاً- أن يرسم خطــًا دراميــًا واضحــًا تشعر خلاله بتموجات الأحداث، والخوض في غمار الشخصيات بشكل يجعلك قريبــًا منها. أما في ليلتنا الكبيرة، كانت الشخصيات غير مرسومة بشكل مُحكم، وإن كُنتُ أظنُ أن عبد الله كان قادرًا أن يمسك بتلابيب كل شخصية أكثر من ذلك، وتطويرها بشكل أعمق، إلا أنه فضّل أن يصنع شخصيات تخطف عينيك كالبرق دون أن تراها حقــًا.
شخصيات كما يقول الإنجليز والأمريكان: Bits and Pieces! هذه الشخصيات التي نتعرف عليها من بعيد، منها ما كُتب بشكل يستفز المشاهد العادي، لأنها نمطية ومُتوقَعة منذ اللحظة الأولى، مثل شخصية زينة الفلاحة التي ترغب في إنجاب طفل ذكر كي تقر عين زوجها، فيكون ضريح سيدنا عرش الدين الملاذ.
في حين رسمت ملامح شخصيات أخرى بشكل أفضل مثل شخصيتي أحمد رزق وصفية العمري التي تقوم بدور أمه، وطبيعة العلاقة المتوترة بينهما، ما بين حد الحقيقة والوهم، إلا أنهما كبقية الشخصيات التي نمر عليها مرور الكرام!
في اختيار الأدوار، تشعر أن بعض الممثلين تم اختيارهم لأنهم قاموا بنفس الدور من قبل مثل سلوى محمد علي، هذه الممثلة الممتلئة بالمصرية، أو دور سامي مغاوري، أو عمرو عبد الجليل، أو محمود الجندي، أو زينة التي لا أعلم ما هو الجديد الذي قدمته منذ بدأت مشوارها مع الراحل نور الشريف في "حضرة المتهم أبي"!
رُغم ذلك، شعرتُ أن كثيرًا جُمل الحوار المنتقاة في الفيلم كانت جيدة، وبعض عبارات أحمد عبد الله كانت مُتقنة وفي مواضعها، ففي أحد المشاهد يقول صبري فواز - ممثل رائع أدركنا قدراته التمثيلية مؤخرًا - الذي يقوم بدور أحد دراويش المُولد: المركب اللي فيها غلابة ماتغرقش، ربما لخصت هذه العبارة الفيلم بكامله، وربطته في ظني بالواقع المعيش في مصر الآن.
مَحَلّية عبد الله ميزة واضحة في كل أعماله إذ يُغرق فيها أثناء كتابة حواره، فلقد سمعتُ معه عبارات وكلمات لم تقترب من أُذني منذ سنوات، كلمات كانت تلتقطها مسامعي من فم جدتي من قلب الريف.
"فتح عينك تاكل ملبن"
في عالم المُولد لا يُمكن أن يخفى عن ناظريك هذه البهجة البصرية التي يرتع بها المكان. الإضاءات المُعلقة في كل مكان ، وألوان الفِراشات التي تُزين أركان كل سرادق ينشد أهله في حب النبي، وتنورة راقص المولوية المصرية التي تبعث الحياة في مَنْ يُرقبها.
نجح مدير التصوير جلال الزكي خلال أحداث الفيلم أن يقدم هذه المُتعة البصرية، فكلما فتحتَ عينك وجدتَ كادرًا متميزًا، و تباينــًا جميلاً في الألوان. كذلك، وضح المجهود المبذول في تصوير عدد ليس بالقليل من اللقطات الحقيقية من داخل الموالد. التصوير كان من العوامل المُميِزة للفيلم طوال أحداثه.
"الحضرة والذكر انجلى، يالا بنا نذكر ياولا"
أروع ما كان في الفيلم هو إنشاد علي الهلباوي، و موسيقى خالد داغر. فصوت علي الهلباوي، وكلمات الإنشاد التي تَمَسُّك خلال الفيلم كانت بمثابة المُعين على استكمال الحكايات المُتقطعة. أما خالد داغر الذي يَبْرُزُ نجمه في سماء صناعة الموسيقى التصويرية، قد برع في صناعة هذا الخليط من موسيقى تداعب الصوفية تارة، ثم تعود إلى عالم المُولد الصخب تارة أخرى، فتتلاعب بحِسِك كيفما شاءت.
أهمية الفيلم في ظني هو عرضه في مهرجان دولي. فالفيلم لم يرتق لمستوى المهرجان. فلا هو اقترب من جدلية دائمة في عالم الموالد وهي رؤية السلفيين والصوفيين بالنسبة لقضية الأضرحة، بل مر عليها بشكل سطحي جدًا، ولا قَصّ لنا حكاية واحدة أو حكايتين بعُمق وتروي، بل جال بنا سريعــًا بشكل لا يختلف كثيرًا عن بانوراما المتاحف.
مُحاولة سامح عبد العزيز، وأحمد عبد الله لتكرار الفرح وكباريه، لا يمكن أن تضاهى بهما. فنحن لم نشاهد هذه المرة شجعان السيما الذين يأخذونك معهم إلى عوالم أخرى، قد نراها في حياتنا دون أن ندركها. فلا نحن أدركناها ولا خطفتنا شخوصهم إلى عوالمها!