كاميرا مُتمهلة تخترق عُمق الشاشة بتؤدة، مُستكشفة لنا قضيب قطار اكتسى بالعُشب، وتناثرت الأعشاب والبرودة من حوله في كل صوب.. تخوض الكاميرا ببطء ويتضح معها امتداد القضيب مع مزيد من القتامة والبرودة والسكون، لا صوت هنالك، لا حركة في المكان، صمتُ داكن، ونحن نتوغل مع الكاميرا لنزداد انقباضًا، ثم يقتحم كلب لاهث الصورة، يهروّل على القضيب دون أن ينقطع نباحه، لتتسارع معه الكاميرا وقد قررت اللحاق به.. يتسع المشهد أكثر وقد عانقته موسيقى صاخبة مُقبضة للحظات.
الكلب يقطع القضيب المُكتسي بالعُشب مهرولًا، وقد بدا أنه يبحث عن شيء، يلهث وينبح، ونحن معه نحاول التقاط أنفاسنا، بينما لفّتنا كابوسية الأجواء، وقبضت قلوبنا مفردات الصورة، وتسارعت النبضات مع تسارع حركة الكاميرا وتوترها وترنحها، ليهدأ الكلب أخيرًا وتتئد خطواته، فتستعيد الكاميرا رُشدِها، لتكشف لنا الشاشة عن صبي في وضعية الركوع، وقد لفّت رأسه أنشوطة مُتدلية من فروع إحدى الأشجار المنكسرة، جسدهُ جامد هامد لا حياة فيه، وقد فاق ما حوله سُكونًا، نظرات الكلب تثبُت على المشهد، ثم يشرُع في الحوُم حول جسد الصبي المُرتكِن على العشب، لا يفهم ما أصابه، فينبح نباحُه الخافت الواهن، طامحًا في استجابة صاحبهُ الذي لن يستجيب.
هذا هو المشهد الكابوسي الذي افتتح به مخرجنا جيب روند فيلمه "Bridgend"، وكان الافتراش الأمثل لفيلم بهذا النوع، فأنت مع أولى لحظات الفيلم، ينقبض قلبك وتضيق أنفاسك، لِما انطلت به الصورة من سوداوية وكآبة قاتمة، لائمت موضوع الفيلم تمام الملائمة، ونجحت باقتدار في صبغ أرواحنا بحالة الفيلم وأجوائه، والجميل أن "جيب" ضبط إيقاعه هذا، بمفردات غاية في البساطة، ولم يتكلف في مكونات صورته بالمرة، فكانت دومًا بسيطة متنصلة من التكلف، قادرة بواقعية مفرداتها أن تصيبك بالجو النفسي كما اقتضى الأمر وأكثر.
نحن في مقاطعة بريدجيند، التي ضربها داء غريب الشكل، يأبى أن يتداوى، حيث بدأ سلسال شباب المقاطعة في الانفراط، وبدأوا في الانتحار واحد تلو الآخر، دون سبب معلوم أو مبرر يمكن تتبعه، فقط بين يوم وآخر، يقرر أحدهم شنق نفسه على طريق عودة أبيه من عمله! دون إبداء سبب أو ترك تلميحات، حتى رسائل الانتحار لا يكتبونها! كلهم مراهقين دبّت في أجسادهم الصحة، وعمرت أرواحهم بالحيوية والحياة، يقررون في بساطة تامة إنهاء حياتهم بأنشوطة يلفوها حول رؤوسهم، ليتركون أجسادهم تتدلى منها، وكأن بهذا يأتي التحرر والخلاص!
هنا يتوافد للمقاطعة الظابط "ديف" بصحبة ابنته"سارة" لمحاولة فك هذا الطلسم، ولكن الضابط نفسه بحاجة للرعاية وبمن يفُك طلاسمه الخاصة، هو ليس بالكفاءة المعهودة لمثل هذه القضية، ولا يكترث سوى للمرأة التي يمارس معها علاقة حميمية معوّضًا فيها ما فقده بعد وفاة زوجته، ومُفرغًا بالعلاقة كل طاقاته السلبية، بينما "سارة" ستتآلف مع مجتمع مراهقي المقاطعة؛ سيتجاذبون أقدامها، وهي ستنجذب!
"لوريل" هي الأقدر على التعامل مع "سارة" والظفر بصداقتها، هي الأصلح لاجترار أقدام الفتاة لمجموعتها غريبة الأطوار، ستتعرف عليها بتودد لا يثير الريبة، وستحدثها عن البحيرة، ولِما لا تذهب معها إلى هناك، حيث يجتمعون ويمارسون ألعابهم ونشاطاتهم، وبين تردد وتفكير، توافقها "سارة" أخيرًا.
عند البحيرة، تتعرف سارة على مجموعة مراهقي البلدة، وتحتك لأول مرة بطقوسهم الشاذة العجيبة، وأفعالهم المُقبضة المثيرة للريبة، لم تحتاج لكثير من الجهد لتدرك أن "توماس" هو صاحب الكلمة المسموعة بينهم، وأن هؤلاء الشباب يعتنقون منهج لا يُنبىء بالخير، فمبجرد أن تعارفت عليهم، إذا بـ "توماس" يجهر بصيحاته: "مااااااااااااااارك.. مااااااااارك.. مارك" ليحاكوه الرفاق فعلًا، فتتعالى أصواتهم المكلومة هتافًا باسم "مارك" –الصبي المنتحر على القضيب في افتتاحية الفيلم- وقد تغلفت صيحاتهم بحسرة عاتية، وندت نبراتهم عن جراح عميقة لا تعرف الالتئام، تنضم "لوريل" هي الأخرى وترفع صوتها بالنداء: "مااااااااااااااااااارك"، ينقبض قلب "سارة" وتشعر بالهلع، وتبدأ في التراجع بخطواتها مقررة الانسحاب، تلحقها "لوريل" وتطلب منها الانضمام، لكن "سارة" ترفضه ولا تنخرط معهم في هذا الطقس المجذوب.
ثم يأتي ما هو أكثر جنونًا، فنجد الفتية والفتيات، بدأوا في خلع ملابسهم، ليتحرروا منها جميعًا، ويبدأون بالارتماء في أحضان البحيرة، ولا زالت صيحاتهم لا تفارقهم، تتابع "سارة" وقد راقتها فكرة التحرر من الملابس والتقافز في مياه البحيرة بعض الشيء، فهو طقس يمُت للهو أكثر منه جنونًا، لكنها تتابع باسمة ولا زالت ترفض الانخراط.
بين هذه الطقوس، هناك مشهد -تكرر لمرتين أو ثلاثة- سأخصُه بالذكر، لأن المشهد بالغ التأثير، ولن يفارقك تأثيره لأمد ليس بالهين، وهو حين يتحرر المراهقون من ملابسهم، ويبدأون بالقفز في المياه ممارسين لهوهم، بعد لحظات، تكشف لنا الكاميرا عن الفتيات منهم، وقد استلقت على ظهورهن في مياه البحيرة، لا يظهر منهن سوى مراكز وجوههن، وصدورهن فقط تطفو على المياه، ساكنون تمامًا وكأنهن فارقتهن الحياة، مع كثافة أعدادهن، وهدوءهن الشيطاني، ومنظور الكاميرا من أعلى، فتجد البحيرة وكأن مياهها أمست مقبرة تحتشد بأجساد الفتيات النضرة، مقبرة ابتلعت الحياة والحركة، وفاضت بالسكون، لا يطفو منها سوى أعين وأنوف وصدور لا تقطعها حركة أو حياة، فقط أجساد طافية تحركها المياه برفق، وقد تزاحمت على السطح الأوجه الجامدة والصدور التي لا تشوبها حتى حركة النبضات!المشهد كابوسي للغاية، ومُقبض بعنف، مفرداته ومنظور كاميرته وأجواءه ستعانق دواخلك، وستنجح في غمسك بكآبة حالة الفيلم وسوداويته حتى النخاع، ورغم سوداوية المشهد وإثارته للانقباض، إلا أنه عامر بالجمال والهدوء والسكينة! لدرجة أنك تحب تكراره، وتنتظر أن يكتنف الشاشة من جديد، المشهد بالفعل كان من أكثر براهين الفيلم على تمكن جيب روند من مفردات صورته، وصياغة أجوائه بإتقان لا غبار عليه.
وتتوالى الأحداث، لنجد "سارة" شأن أي مراهق، تنجذب لـ"توماس"، وفي مشهد معه، يتضح لنا مزيد من تصرفاته الشاذة، إذ تستلقي هي على الفراش، وتنتظر منه تقبيلها، فنجده أحكم قبضته على عنقها، وأخذ يضغط أكثر وأكثر، بينما هي تركل وتنتفض طالبة منه التوقف، حتى يعود لرشده أخيرًا ويتركها، في دلالة على أن هؤلاء الشباب غرقوا في بحر من الطاقات السلبية والمشاعر الكارهة العنيفة، فاصطبغت كل طقوسهم بالتنفيس المجنون عن ذلك.
وينتحر "توماس"، لترتبط بعده "سارة" بـ"جيمي"، ابن القِس الذي لطالما اجتمع بالناس، طالبًا منه التفكير فيما أصابهم، ليفقدوا أبنائهم واحد تلو الآخر، دون سبب أو ضوء يسترشدون به.
وبين المشاهد، ندرك أن مراهقي البلدة، يتبادلون الحديث في غرفة محادثة على الإنترنت، حيث يفضون فيها بأفكارهم الشيطانية، ونقمهم على حماقات آبائهم، وعلى أنه لا بد من الثأر، وأنهم سيجتمعون في عالم آخر سويًا بالبحيرة، ينعمون فيها بالوحدة والسعادة الأبدية التي لا تنقطع! هم كأي مراهق، يرى كيف أن الآباء حمقى، ولا يدرون شيئًا مما يحب، ويستحقون العقاب، كأي مراهق تنتابه الأفكار بأنه لا يلقى قدره المطلوب، ولكن هؤلاء الشباب، تخطوا هذا المستوى لمستوى أكبر وأكثر خطورة، فصاغوا ميثاقهم، بأن العقاب واجب لكل هؤلاء الحمقى، وأن السعادة تنتظرهم، حتى أنهم سنًوا قوانين عديدة لمجموعتهم، منها على سبيل المثال، ألا يغادر أحدهم "بريدجيند" ابدًا.
"سارة" تناضل وتقاوم الانخراط معهم بكل قواها، إلى أن يصيب الدور "لوريل"، وتنتحر هي الأخرى، فنجد "سارة" أخيرًا، تنضم وتصيح معهم وتنغمس في مياه البحيرة وقد أنهكها فقدان صديقتها.
ثم تصل لحد أبعد في الانخراط، حين تتوتر علاقتها بـ"جيمي"، وتصل للحد الذي بلغه هؤلاء الصبية تمامًا، والفيلم يستعرض كل هذه التطورات بإتقان جميل، لاعبًا بمنتهى الواقعية على أوتار المواقف ومرحلة المراهقة بما تعج به من معايير مجنونة فاصلة قد تقود للجحيم ذاته.
الفيلم زاخر بالعلاقات، وأجاد نشأتها وتوتراتها بشكل جميل، وتصاعد بنا رويدًا رويدًا لبلوغ توتر علاقة "ديف" بابنته "سارة"، ثم قيام الحرب بينه وبين مجموعة شباب القرية، خوفًا على ابنته من وباء الشنق الساري في الجميع، وأنت تشاهد وتتوتر وتنطلي بكل موقف وحالة دون أدنى مجهود، مُعايشة تامة، فمن أجمل مقومات الفيلم، هى أن كل حالة به حِيكت بإتقان بالغ، فنضحت بصدق الأجواء واخترقتك حد المعايشة دون صعوبات، المشاهد التي يركضون بها في جنون مهللين، تفعمك بالحيوية والثورة، المشاهد التي يمارسون خلالها طقوسهم الشاذة، تقبض قلبك وتخنق أنفاسك، المشاهد التي نفقدهم بها، تُطلي روحك بالحسرة والألم، كلُ في موضعه ونجح تمامًا بأن يبلغك ويستقر.
ثم الموسيقى التصويرية، والتي كانت أكثر من ممتازة، موسيقى الفيلم قادرة تمامًا على تدعيم الأجواء بما تحتاجه طيلة مدة العرض، ففي أفعالهم الجنونية، تهدر موسيقى صاخبة تثير الفوضى بحواسك، في المشاهد الكئيبة المُقبضة، تهدر ضربات الموسيقي التي تقتلع منك الآمن والطمأنية، الموسيقي لـ "كارستن فاندال" كانت أكثر من ممتازة.
هانا موراي في دور "سارة"، أدت بشكل جيد ومتميز ، كذلك جوش أوكونور في دور "جيمي" ببرودته المستفزة، كان متميزًا للغاية ومثير للريبة تمامًا، لكن ستيفن ادينجتون في دور "ديف"، كان صاحب أداء باهت غير مؤثر، ولم يروقني بالمرة.. ويبقى الفارس الأول للفيلم هو مخرجه "جيب روند"، الرجل متمكن للغاية من صورته وكاميرته، عازفًا ببراعة على أدواته، متحكمًا تمامًا في مفرداته، نائيًا بها عن البهرجة التي لا طائل منها، والتكلف المُفسِد للأمور، فهو ببساطة مفرداته وإتقانه صياغة أجواء مشاهده، أصاب أعلى درجات التمكن.
ينتهي الفيلم بمشهد لا يقل كابوسية عن مجرياته، وربما المشهد يحمل من الغموض كثيرًا، لكن سوداويته ستقتحمك وتقبض قلبك تاركة إياه دون أن يهنأ! الخاتمة لا تقدم تفسير نهائي، وهو أمر مفهوم كَون الفيلم قائم على أحداث واقعية سارية ليومنا هذا، ويُحسب للفيلم أنه لم ينفصم عن جوّه العام حتى آخر لحظاته.
الفيلم جميل، مثير للذهن والنفس معًا، ممتع وبه مشاهد عدة ذات تأثير بالغ لن يغادرك بسهولة، مُقبِض حد الإرهاق، مُقلق حد الخوف، وسوداوي لكنك ستُحب سوداويته! هو سيُقحمك ويُورطك تمامًا مع مجتمع المراهقين ذلك، وسُيطعمك اللغز بكامله دون تقديم الحلول، لتدرك في النهاية -وقد امتلأ وعاء انقباضك عن آخره- أن "بريدجيند" ليومنا هذا، لا زالت لغزًا يموت له الوِلدان.