الارشيف / سينما و تلفزيون / السينما كوم

"Mia Madre".. لا تغيبي يا حياة

ـ أمُاه
= نعم؟
ـ ما الذي تفكرين فيه؟
(بلهفة لا يشوبها تفكير)
= في الغد.


هذه هي السطور الختامية لفيلم "أمي"، وهي سطور سُتجيد اعتصار قلبك حتى النخاع عقب خاتمة الفيلم، بعدما ستختبره خلال رحلته، وما ستعيشه خلال مواقف أبطاله، فبمجرد أن تتذوق تلك السطور بروّية، متذكرًا الرحلة بكاملها وما زيّنها من مواقف عانقها الألم وغلفتها المعاناة، ستشعر بأن هذه السطور البسيطة، تضرب في أعماقك، لتجد نفسك متأملًا في أمور عديدة، قد تُلهيك عنها أمور الدنيا ومشاغلها، لكن تأتي أوقاتها، ولا تترك لك مجال سوى أن تتفكر بها، ويخالجك إثرها مزيج من المشاعر التي اجتمعت لتخُط لك بعضًا من حِكَم الحياة التي أرجأتها جانبًا.

هو واحد من تلك الأفلام التي تلعب بشكل أساسي على العلاقات الإنسانية، وما يتخللها من مواقف مختلفة تتباين فيها الأدوار وردود الأفعال، لترتبط أنت بشخصياتها، تتفاعل معهم، تشعر بمعاناتهم، تشاطرهم فرحتهم، وتبكي دموعهم.

فأجمل ما في الفيلم برأيي، أنه أجاد بامتياز صياغة الشخصيات، ورسم حالاتها بردود أفعالها تحت وطأة الضغوط والمواقف التي تتعرض لها بإتقان بالغ، فالمخرج والسيناريست "ناني موريتي" كان أستاذًا في حبكهُ لتفاصيل نصّه، بمنتهى البساطة والشاعرية والسلاسة، يضع تلك التفاصيل التي لازمتنا جميعًا في رحلات المرض التي طالت أعزائنا وأحبائنا، ليسردها بعناية شديدة وبإخلاص مُحكم، فتجد التفاصيل تتسرب إليك لتُعانق تفاصيل أخرى كامنة لديك، واختصت بتجاربك الشخصية، فتشعر بالألم مع "مارجريتا" بطلة الفيلم، لتترقرق دموعك مع دموعها، وتنزهق أنفاسك تحت وطأة ضغوطها.. تفاصيل الفيلم كانت بديعة واقعية للغاية، فلا تترك لك مجال سوى للمعايشة التامة، ومحاكاة ما يُعرض عليك من خلال الشاشة، بما عُرض عليك في حياتك ذاتها مع أعزاء فقدتهم أو مواقف داهمتك بالضغوط.

"مارجريتا" هي مخرجة، تعمل على فيلمها الجديد، وقد حاصرتها الضغوط المعتادة المرتبطة بمثل هذا العمل، في حين أن والدتها أمست طريحة لفراش المشفى وقد استبد بها المرض، فتكاتفت الضغوط على بطلتنا من كل اتجاه، غير تاركة لها منفذ تستنشق منه الهواء، الفيلم الذي تصوّره يُزيد من عوائقه وضغوطه، بينما والدتها يتنافس عليها الموت والمرض، لكن "مارجريتا" شأنها شأننا جميعًا، ترفض التصديق، وتأبى الانصياع لسطوة الموت، أمها لن تغادرها الحياة، وستعيش مهما استبد بها المرض، ما يحدث ليس احتضار، بل هو مرض سيسأم مضايقة والدتها ويرحل قريبًا.

فنعيش نحن مع "مارجريتا" وشقيقها ووالدتها، رحلة المرض بتطور مواقفها، ولأن "موريتي" أجاد رسم شخصياته، فنحن نعشق الوالدة بحق، ويأسرنا ثراء شخصيتها، فنتمنى أن تتعافى، وأن لا تغيب عنها الحياة، نتألم لـ"مارجريتا" ونضجر من عنفوان مرض والدتها، الذي لا يُمهلها مساحة التقاط الأنفاس، ونشهد رحلة التلاشي بحذافيرها، أمها ترحل رويدًا رويدًا عن العالم، تفقد تفاصيلهما المشتركة وتتبخر مغادرة كيانها، يغزوها المرض ويحتل بِقاعها واحدة تلو الأخرى، هي حرفيًا تتلاشى، ولا تملك "مارجريتا" شيئًا غير مراقبة الأمر في حسرة شابها العجز وقلة الحيلة، والدتها أمامها تذهب بعيدًا والألم يستعرض عليها بنيانه، بينما هي ليس بمقدورها أن تفعل شيئًا، وليس بمقدور أحدهم ذلك، هي تلك اللحظة التي يعجز فيها الطب، وتقف المشاعر مكتوفة الأيدي لا تملك حولًا أو قوة، فقط أنت تراقب وتأبى تصديق ما آلت إليه الأمور، ستشهد كل هذا ويقترن عندك بما مررت به في رحلة مرض أحد الأقرباء إليك، مؤكد ستصيبك بعض التفاصيل باقتدار، لأن النص كان محكومًا للغاية في هذا الأمر.

من المشاهد التي سينتفض لها قلبك في الفيلم، حين تقوم "مارجريتا" بمعاونة والدتها "آدا" لتنهض من على الفراش، حتى تقطع رحلة قدرها ثلاث خطوات لا أكثر، ولكن بمجرد أن تنهض الأم، يلتهمها التعب ولا تطيق صبرًا، تطلب من ابنتها المقعد، وابنتها قد ضاقت بها السبُل، فلا ينقصها أن تشهد عجز والدتها عن قطع ثلاثة خطوات.. فتخبرها مستثارة: "أمي، هي ثلاث خطوات لا أكثر"، ولكن الأم تبدأ في التهاوي، لا تقدر على إقامة جسدها حتى، فتصيح "مارجريتا" صارخة وقد ظفر بها الجنون: "هي ثلاث خطوات يا أمي، ثلاث خطوااااات"، لتصمت بعدها وتنظر إلى لوالدتها التي أنهكتها لحظات الوقوف فبدا عليها المرض أكثر ما كان باديًا، فتجهش بالبكاء متأسفة، وتحتضن والدتها، التي تبادلها العناق، فتطلق "مارجريتا" لبكائها العنان في أحضان أمها.

المشهد جميل للغاية، واقعي للغاية، مؤلم جدًا، وشاعري حتى النخاع، ستتذكر معه أحد مرضاك، الذي تحاول أن تطعمه إفطاره، ليتناول من بعده دواءه، وهو يرفض لأنه غير قادر على تناول هذا الطعام، بينما أنت لا تملك خيارًا ويجب أن تطعمه، وهو فعلًا ليس بمقدوره إجابة طلبك، فربما تخرج عن شعورك وتعامله بحدة أو تصرخ عليه، أو يصدر عنك أي تصرف تندم عليه بعدما تستعيد هدوءك، سترى في المشهد كل هذه التفاصيل، وستتألم لكلا الشخصيتين، وستعانق الأمور أمورًا قد اختبرتها بنفسك، وهي أبرز عناصر فيلم "موريتي"، تفاصيل النص رائعة ومحكمة، تُعانق حالة الفيلم اعتناقًا مغلفة إياها بواقعية المواقف.

كما لجأ "موريتي" لحيلة بنائية في منتهى الذكاء، وهي "باري" الممثل المُساعد الذي تلجأ له "مارجريتا" ليؤدى دورًا بفيلمها، فنجده شخصية طريفة للغاية، لا تنفك عن إلقاء الدعابات والمزاح، روحه تفيض بالحيوية والفكاهة، وبذات الوقت هو أحمق لا يقوى على حفظ سطرين متتاليين من السيناريو! ليُزيد من ضغوط "مارجريتا" ضغوطًا، لكنك تتابع مشاحناته معها بارتياح رهيب، وتبتسم رغمًا عنك، حتى في ذروة ثورتهما، لأن شخصية "باري" رُسمت بعناية جميلة منذ أولى لحظات ظهورها على الشاشة، دعاباته وتعليقاته ستقتلع منك الابتسامة وحبك للشخصية دون عناء، وهو الأمر الذي نجح في موازنة الفيلم تمامًا، فلم يكن مُغرقًا في السوداوية والمعاناة طيلة مُدة العرض، بل كان يتنقل برشاقة بين منطقة "آدا" التي لفّها المرض والألم، متربصًا الموت بها، ومنطقة "باري" المرِح الذي لا يتخلى عن مرحه، حتى في أعتى لحظات حماقته وعدم تمكنه من أداء دوره، وهي نقطة تُحسب لـ"موريتي" بشدة -لأنه حفظ بها اتزان أجواء الفيلم ببراعة- وأيضًا للممثل الجميل "جون تورتورو"، الذي نجح بخفة ظله وطلته المحببة، أن يجعلنا ننتظر ظهوره على الشاشة.

هناك مشهد احتفالهم بعيد ميلاد "باري"، ليرقص "باري" مع إمرأة بدينة بعض الشيء من طاقم عمل فيلم "مارجريتا"، في مشهد من أجمل مشاهد الفيلم قاطبًة، فطريقة رقصهما سويًا كانت استثنائية وبديعة بشكل لا يُحتمل، وستنثر ألوان البهجة في روحك على شتى المستويات، رغم غرابة حركاتهما، ولكنك ستعشق كيفية تحركهم وتمايلهم ، فتجد روحك معهم تتراقص.

من أبرز عناصر الفيلم هي الأداءات التمثيلية، الممثلين كانوا في أعلى حالات أدائهم، سواء الرائعة "مارجريتا باي" في دور "مارجريتا"، وقدرتها على تجسيد مثل هذه الشخصية، بما تتعرض له من ضغوط، وفي نفس الوقت تهيم حبًا بوالدتها وترفض أن تغيب عنها، تعابير وجهها كانت مُحكمة للغاية ومؤثرة، فاضت بالأسى والاختناق بالضغوط، وطريقتها في التعامل مع شخصيات الفيلم كانت محبوكة الأداء بدرجة امتيازية، فتعشقها، تتألم لألمها، تسعد لابتسامتها، وينتابك السرور حين تتعالى ضحكاتها لدعابات "باري" المقصودة وغير المقصودة، كذلك "جون تورتورو" كان بديعًا وتعشق مجرد ظهوره على الشاشة، و"موريتي" نفسه كان هادئًا كما اقتضت شخصيته، غير متكلف ابدًا، والجميلة "جيوليا لازاريني" في دور الأم، ستقع بك في غرامها، وتجعلك تتمنى أن يفارقها المرض، لتتشبث بها الحياة، فهي هادئة مستكينة ثرية الروح، لا تعبأ للمرض، وكانت تؤدي كل هذا بمنتهى اليسر والسهولة، تفاصيل السيناريو منحتها تلك المساحة، وهي شغلتها باقتدار، فكانت التفاصيل بينها وبين الشخصيات جميلة، تطرق أبوابًا في دواخلك.

على سبيل الذكر، وهي تحدث حفيدتها، فتخبرها: :"إنهم يظنون أن الشخص كلما كبر بالسن ازداد حماقة، ولكنهم لا يعلمون أنه يفهم كل ما يدور حوله أكثر منهم بمسافات" ، كانت سطور جميلة جدًا، ومن ضمن لوازم عديدة، طَلَت شخصية الأم بالحكمة الحياتية المحببة، والثقافة التي اعتنقتها في شتى تفاصيل حياتها، فتتمنى أن تتغلب على المرض، لتختبر جماليات شخصيتها وثراءها أكثر فأكثر.

الفيلم بالفعل جميل، به مسحة كلاسيكية لا تُخطئها الحواس، وذاخر بالتفاصيل التي نُحتت من الواقع، آسر وستترقرق له دموعك في بعض اللحظات، ولربما دموع الحاضرين بقاعة العرض، التي التمعت في عيونهم خلال مواقف عدة من الفيلم، لتنهمر عقب خاتمته الخلابة، خير دليل على أن "موريتي" أجاد تمامًا صياغة نصه ورسم صورته، وإصابة أعماق كل شخص منا في تفاصيل كامنة بداخله، اختلجت بالألم والمعاناة لفقدان الأعزاء.

"مارجريتا" تمنت أن لا تغيب الحياة عن والدتها، حتى لا تغيب عنها حياتها، هي تمنت ونحن تمنينا، ولا زلنا سنتمنى.. لكنّ الحياة دومًا تركُن لسُنتها في أن تغيب.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى