من أفضل التقاليد التي تتَّبعها بانوراما الفيلم الأوروبي في كل عام تعريفها بعدد هائل من المخرجين الجدد الذين يشاركون بأولى تجاربهم السينمائية، ومن بينهم الممثلة والكاتبة والمخرجة التركية دينيز جامزي إرجوفين التي عرض لها هذا العام أول أفلامها الروائية الطويلة Mustang، والذي عرض من قبل ضمن أسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي الدولي.
تختار إرجوفين الحراك في قصتها من تجربتها الشخصية كإبنة صغرى في أسرة محافظة، بالإضافة إلى حصيلة تجارب حقيقية للكثيرات من بنات جيلها، حيث تسير الأحداث في بيئة متزمتة وهي هنا الريف التركي، حيث يتحول كل ما يمت بصلة لنون النسوة في عيون السكان إلى مصدر شهوة يتحرك على قدمين، لذا تكون أمام الفتاة في هكذا مجتمع حل من الاثنان: إما أن تتزوج في أسرع وقت ممكن، وإما أن تكون حبيسة المنزل.
من الواضح على إرجوفين أنها قد كتبت السيناريو وهى محملة بقدر هائل من الغضب لما يحدث لبنات جنسها في تركيا، وهو ما يتجلى في حشدها لقدر هائل من المواقف اليومية المتزمتة التي تصادف الفتيات ولا ترى فيهم سوى مجرد أجساد مشتهاة على غرار ما فعلته الكاتبة والمخرجة السعودية هيفاء المنصور في فيلمها الشهير (وجدة).
هذه الحالة الغاضبة هي التي تفسر مزاج الفيلم، حيث لا يوجد تقريبًا أدنى فاصل زمني بين الفعل ورد الفعل، كل شيء يحدث في غمضة عين على حد قول الفتاة لالي التي صارت حبيسة المنزل مع شقيقاتها الأربع، فكل فعل تقدم عليه الفتيات جميعهن أو إحداهن يقابله رد فعل فوري، مما يشير لحجم الترقب البغيض الذي تقابل به أفعالهم، كما أن العاقبة أكبر بمراحل من الفعل ذاته. لعب بريء مع مجموعة من الصبية يتم العقاب عليه بالحبس في المنزل، محاولة التسلل تواجهه المزيد من القضبان، لائحة الممنوعات أمام الفتيات تزيد ولا تنقص مع الوقت.
قد يبدو على الفيلم في النظرة الأولى أنه يحمل نبرة المظلومية المعتادة في هكذا أفلام، لكن المختلف هنا أن الفتيات يحاولن دومًا عدم الانطواء تمامًا تحت خيار الانسحاق من قبل أسرتهم المتزمتة، دائمًا ما يكون هناك حلول للمراوغة بعيدًا عن القواعد الموضوعة لهم، حتى لو كان الخيار محصورًا في بعض الأوقات بين السيئ والأسوأ مثلما حدث مع الفتاة الثانية التي وقعت أمام خيارين: إما البقاء في المنزل الشبيه بالسجن من كثرة القضبان الحديدية المحيطة به، أو أن تتزوج من رجل لا تحبه ولا تعرفه من قبل.
يخصص الفيلم للشقيقة الصغرى مساحة درامية أكبر من المساحة الدرامية المخصصة لشقيقاتها الآخريات، وهو أمر طبيعي لأنها الأكثر نزوعًا إلى التمرد من بينهم دون أي حسابات أو تفكير مسبق، فهي التي بتبادر بشتم الجارة التي أبلغت عنهم لجدتهم، وهي التي تبصق في القهوة المقدمة للضيوف القادمين لخطبة الفتاة الثالثة، وهي التي تصر على تعلم قيادة السيارات لكي تستطيع الفرار في المنزل في الوقت المناسب.
إن الشقيقة الصغرى تفعل كل ذلك كتعويض عن قلة الخيارات المتاحة أمامها كمثل المتاحة لشقيقاتها الأكبر، ويزداد هذا مع الوعي أكثر فأكثر بطبائع الأمور والنضج الذي يتأتى بالتقدم في السن مع مراقبة ما تقوم بقية الشقيقات، لكن الأهم هو محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، خاصة مع منع عائلتها إياها من العودة للمدرسة مرة أخرى وهو التهديد الأكبر لها على الإطلاق.