الارشيف / سينما و تلفزيون / السينما كوم

"Goodnight Mommy".. لن تصبحي على خير يا أمي!

"إن أمي ليست على ما يرام، لقد فقدت جُلّ تفاصيلها! لم تَعُد كما كانت، إنها تتجول في أرجاء المنزل كالكابوس، تنثر الغرابة في شتى الأنحاء، كُل ما يصدر عنها مثير للشك والريبة، هي تحاول إقناعنا بالعكس، لكن لن نقتنع، لقد أمست تُعنِّفنا كثيرًا، أسلوبها صار بغيضًا، لا مساحة للنقاش، هي تأمر منتظرة التنفيذ، لا تحتمل أي خطأ، حتى الأخطاء غير المقصودة، والأدهى أنها تعاقبنا على ما أعتدنا فعله معها من قبل!.. كل ما يبدو منها مفزع وغريب، صرنا لا نجرؤ على التقاط أنفاسنا أمامها بعض الأوقات! هي حتى ترفض أن نتحدث سويًا، وكأن هدفها أن تدب الفُرقة بيننا! لا علامة واحدة تقترن بما كانت عليه من قبل، وكأن هذه العملية الجراحية قد بدّلتها تمامًا، لا تصرُف، لا فعل، لا عادة أو أمر يرتبط بوالدتنا هنالك، هي كائنة أخرى لحمًا ودمًا، حتى مظهرها لا جزم فيه أو يقين، فأجادت إحاطته بالكابوسية والغموض أكثر فأكثر، وكأنها تؤكد لنا الرسالة بأنها ليست كما كانت، تؤكدها في كل ذرة تصرف تخصُها، يا رجل، لقد أمست تُجمِّد الدم في عروقنا.. أو تعلم؟ إنها ليست والدتنا! قطعًا هي شخصُُ آخر! هذه ليست أمي!".

هذا هو لسان حال التوأمين "إلياس" و"لوكاس" طيلة مدة عرض فيلم "Goodnight Mommy" تقريبًا، يتناوبا الشك معًا حول والدتهما، وما آل إليه وضعها من غرابة مُريبة مفزعة، يبحثان في تفاصيلها، يستقصيان عن أي أمر مألوف يخُصها، لكن البحث دومًا يبتعد بهما عن الألفة مقتربًا من الغموض، يحاولان جاهدين، لكن الرعب وسطوته تفوز، والغموض يفرض دومًا الميل لما هو أكثر تشاؤمًا، فيقرران أخيرًا أن يبلغا الحقيقة بطريقة تليق بهذا الغموض، وتُجابه ما تعرضا له من رعب طيلة أحداث الفيلم.

هو واحد من تلك الأفلام التي احترفت تعدد المناظير، فيستعرض لك الأحداث خلال أكثر من منظور، باختلاف موقف كل شخصية، ومبرراتها التي ساقتها لهذا المنظور، لأكثر من ثلثي الفيلم، يتبنى منظور الطفليّن، وكيف أنهما لا حول لهما ولا قوة، بينما الهلع يمتص آمانهما، وغموض والدتهما -بعد إجرائها عملية جراحية إثر حادث- يكاد يفتك بأفكارهما، والفيلم يعرض ذلك بروّية شديدة، وتمهل حارق للأعصاب، فارضًا جوه النفسي بإحكام، وناقلًا بأمانة تامة لتفاصيله، فلا مساحة هنا للخدُع الرخيصة، أو الأمور التي لا شأن لها بحبكة، أو الأحداث التي غاب عنها التفسير، بل هو أمين في نقل تفاصليه وردود أفعال شخصياته، مُطعّمِا إياها بمبررات منطقية، وسلاحه في هذا كان غموض التفاصيل، أو غرابة ما بدت به الأمور.

مثلًا هو لم يُدعمنا بتفاصيل الحادث الذي تعرضت له الأم، وجعلها تبدو بهذه الحال المخيفة، لكنه لعب على وتر أن الحادث صعب، وله من الآثار النفسية ما يقود لمثل هذه الأمور، مُلازمًًا لغموض يُثير تساؤلك وذهنك، ويُبقي على توجسك خلال ما يُعرَض أمامك، ومثل هذه الحبكة سمحت له بأمانة التفاصيل، ونقلها دون لجوء لمؤامرات نصيّة هرَمِنا لها في أفلام الرعب الحديثة.رغم هذا، وقع الفيلم في مشكلةٍ ما، لا أدري هل هي تخصني وحدي، نظرًا لكثرة مشاهداتي في هذه الفئة، أما أنها مشكلة عامة بالفعل، وأقصد أن الفيلم استغرق ما يقرب من ساعة في مدة عرضه، لاستعراض منظور التوأميّن القلِق حول والدتهما، وأنها ليست على ما يرام، وهما يشكّان بأمرها، هذا مع أمانة التفاصيل، جعلني أجنح منذ البداية، في أن أتبنى يقينًا مُعيّنًا أميل إليه، فكلما حاول هو إقناعي بعكسه، مللت وصابني الضجّر.

الفيلم فعلًا متميز في تمهله ونثر صبغته النفسية بحنكة لتنطلي بها في مشاهدتك، ولكن إطالة الأمر أضرت به، خصوصًا أنه طيلة أول ساعة، لم يتنقل بين مناظير الفيلم، هو ذات المنظور يلعب عليه في كل تفصيلة وكل واقعة تمر على الشاشة! لدرجة أنك تبدأ بالفعل في التيقن من أن الأمر ليس كما يحاول إيهامك، وتنتظر التحوّل القادم في الأحداث، أو دحض ما عُرض عليك قرابة الساعة دون أن يُلازمك إقناع.

هذه أقوى مشكلات الفيلم معي، وإثرها شعرت بضجر ليس بهين بعض الأوقات، لكن هو أمر قد تغفره، أمام حرفة صُناع الفيلم في صياغة أجوائه النفسية، وتمهلهم بعرض الأمور، فكان الصوت القاطع دومًا، هو الرعب النفسي الذي يروقك، رُعب الانتظار وتوتر الأعصاب، التوجس مما هو قادم وكيف يمكن أن تسوء الأمور، اللحظات البطيئة التي تتبختر على الشاشة وقد أحكمت أجواءها النفسية، فتمر كل بُرهة حارقة لأعصابك، قابضة لقلبك، ودافعة لاحتياطك مما هو قادم، لتجد أنه سيفوق توقعك.

المشكلة الثانية غريبة الأمر بعض الشيء، حيث تتنازعها دقة تفاصيل النص وأمانة عرضها، مع إمكانية انفضاح أمرها لمن تابع ببعض التركيز أو تعددت مشاهداته في فئة الفيلم، ولكن -للأمانة- سواء انفضح أمر تحول الأحداث هذا بالنسبة لك أو لم ينفضح، فلن يُنقِص من تأثرك بخاتمة الفيلم، أو معايشتك لتفاصيله، لإن إحكام عرض الصورة طيلة الفيلم، مع الالتزام بتفاصيل النص ومراعاة صياغتها، يجعل الأمر في النهاية مصونًًا من كل مراوغة أو ثغرات قد يُلقى بها في أحكام المشاهدين، وهذه نقطة بالغة القوة بالفيلم في رأيي.

النصف ساعة الأخيرة -بما تحمله مِن تغيّر في الأحداث وتبادل المواقف- مؤلمة ومزعجة للغاية، ولن تغادر خيالاتك بسهولة، فـمؤلفي ومخرجي الفيلم سيفرين فيالا وفيرونيكا فرانز، سيتخطيان حاجز توقعاتك السيئة، وما يمكن أن تنقاد له الأمور، ستتعالى الذروة أكثر فأكثر، ومن دون هذا التمهل الثقيل -الذي لازم ساعته الأولى- وربما أرهقك بعض الأوقات، فيتركونك عقب خاتمة فيلمهما، بقلب منقبض، وخيالات تحتضنها مأساوية الشعور بما آلت له الأمور، وكيف أن ضحايا النص، لا يستحقون مثلما حدث، فنجح الاثنان في جعل فيلمهما، من النوعية التي تتركك بعدها، لتتفكر فيما حدث، وماذا لو حدث بالفعل! فالأمر مؤلم ومحطم للقلوب.

هذا طبعًا مع بداعة الصورة، فستتكالب عناصر الفيلم في غمرك بهذا الانقباض والهلع الفعلي حين انتهاءه، فالفكرة حقًا مُرعبة، ومناظيرها المختلفة ستتمكن تمامًا من حقنك بالشعور الدقيق لكل ما يحدث، وتجرع مأساويته دون أن تفلت منك ذرة، وهذه نقطة قوة أخرى تُحسب للفيلم، سواء اقتنعت كمُشاهد بما ساءت له الأمور أو رفضت الاقتناع، فأنت حتمًا ستتأثر، وربما ندت عنك بعض صرخات التأثر.

كاميرا الفيلم كانت مميزة جدًا جدًا هي الأخرى، والتصوير في أبدع حالاته، ولعله الفارس الأول في صبغ المشاهدين بالجو النفسي للفيلم بحذافيره، "مارتن جشلاشت" تميز تمامًا في إدارة كاميرته.

الأداءات التمثيلية أدت ما هو مطلوب، و"سوزان وييست" ستنجح تمامًا في إصابتك بالتأثر خلال نصف الساعة الأخير، بينما تميز المخرجان بالاهتمام بحبكة تفاصيل النص، في ظل ما طلاها من غموض، وإخراجهما كان رصينًا لا يلجأ للزيف.

الفيلم جيد في فئته، لا يغادر تفكيرك بسهولة، سيزعجك ويغذي تفكيرك بالرعب لِما سيبثه فيك من تصوّرات، وسيُرهقك بخاتمته القاسية، مهيئًا المجال للتساؤل المُقلق "رباه، ماذا لو أن هذا قد حدث فعلًا بالواقع؟!"، وهي أمور قلما نجدها في أفلام الرعب الحديثة.. ستعيش أجواء الفيلم النفسية، وسيتركك منقبض القلب، تتفكر في هذه الأم، التي لن تصبح على خير.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى