لم يسطع ضوء الشاشة بعد، ويترامى إلى مسامعنا صوت طبشورة تنقر على سبورة خشبية في رتابة منتظمة، غير قاطع لظلام الشاشة سوى هذا الصوت، ثم يغزو الضوء ليكشف لنا عن فصل دراسي اصطف تلاميذه على مقاعدهم، بينما مُعلمتهم تشخص أمامهم وقد خطت على سبورتها جملة لا تمت للمنهج بصلة.. "لقد سرق أحدهم حافظة نقودي"، وتطلب من إحدى تلميذاتها أن ترفع عقيرتها قارئة للجملة، ليتبين لنا أن التلميذة هي المجني عليها في مضمون الجملة، وأن أحدهم بالفعل سرق حافظتها.
ثم تأمر المُعلمة كل تلميذ بأن يضع حقيبته على درجه الخشبي، لتطلب من "كاتيا" -المجني عليها- تفحص الحقائب علّها تعثر على ما سُلب منها، فينتهي البحث دون بلوغ الضالة المنشودة، هنا تطلب المعلمة أن يتبرع كل تلميذ بعشر عملات خاصته، حتى تتمكن "كاتيا" من تحصيل ما سُرق منها وتدبر أمور يومها، وبانتهاء الأمر يقرع جرس الحصة، فتستوقفهم المعلمة لحظات، تتوجه خلالها إلى الحائط وتُعلّق ظرف فارغ بجوار السبورة، وتُعلن بهدوء باعثًا على الآمان: "هذا الظرف سيظل بمكانه هنا إلى الغد، بإمكان السارق أن يرد النقود، وبنفس السرية التي سرقهم بها، هي فرصته لتصويب الخطأ الذي اقترفه دونما يُفتضح أمره، وقراره وحده أن يغتنمها أو يُفلتها من بين يديه".
هكذا يبدأ فيلم "The Lesson" ناثرًا خيوطه، مفترشًا المساحة لمعضلة أخلاقية مُعقدة مُقبلة علينا خلال أحداثه، يرشدنا برفق إلى شخصية المعلمة بما اعتنقته من مبادئ، تحرص فيها على الحق، وتسعى لتصويب الأمور دون تردد، ويوجهنا لفضيلتها في أنها حتى لا تسعى لفضح السارق وسلسلته بخطيئته علنًا، بل فقط هي تطمح في أن يصوّب خطأه ليتعلم درسًا لا يشوبه انتقاص أو وصمات عار يندى لها جبينه.
ومع تتابع الأحداث، يؤكد لنا مدى تمسك المُعلمة بمبدأها في تلقين السارق درس يفيده، بعيدًا عن فضحه، لنجدها حتى في أحلك أوقات أزمتها، هي لا زالت تخطط وتفكّر كيف تصل للسارق دون وصمه بالعار، لتعُلمه درسًا يُجنبه السوءات.
بعدها يبدأ النص في نسج خيوطه العنكبوتية حول المُعلمة، ليحاصرها دون تمهل بأزمات ارتبطت بالمادة، وجثمت على صدرها دون شغر مساحة للتنفس، يُقحمها في أزمة من بعد أزمة، إلى أن يضعها أمام مُعضلة أخلاقية مستعصية الحلول، وأفضل حل لها مقترن بالتخلي عن الفضائل التي اعتنقتها وسعيت لتحقيقها.. هنا يُحسب للنص قيادة أحداثه بتمهل وروية، وصبغها بالحتمية التي لا تترك مجالًا لمراوغة الاحتمالات أو تخيل المُشاهد لنصوص أخرى يضع تصوراتها بنفسه، بل النص كان مُحكمًا، ناسجًا خيوطه بعناية، راسمًا شخصياته بالتحام مع واقع المواقف وكيفية التعامل معها، ولهذا تمكن كلُ من كريستينا جروزيفا، وبيتار فالشانوف مِن بلوغ تلك المُعضلة الأخلاقية المُعدة بدقة، وإقحام بطلتهما فيها ونحن معها دون أن يفلت منهما أي إيقاع، ولهذا سيشغل نصهما تفكيرك، ويضعك في موقف عصيب لا تميل فيه لحكمٍ قاطع، أنت متردد ولا تدرك هل تتعاطف أم ترفض، وإذا بحثت عن الحلول البديلة، شعرت بذات اختناق البطلة وضيق البسيطة بها، فتنحصر دنياها في ملليمترات لطخها نُقصان الفضيلة، وهو الأمر الذي يشهد ببراعة صياغتهما للنص وتمكنهما تمامًا من عناصرهما وأدواتهما.
فالمعضلة رُسمَت بمتوالية مآزق تتعرض لها مُعلمتنا، تكتشف فيها بغتًة أن زوجها لم يسدد مديونيات البنك، لأنه اشترى بالمبلغ مُحرك لشاحنته المتهالكة التي لا طائل منها، وإذا بها يداهمها محصلو البنك مهددين إياها بالحجز على المنزل وإلقاءهم في الشارع.. لا منفذ لها، حتى أن الشركة التي تترجم لها بعض الأعمال كعمل إضافي، تُماطلها في أجرها وتزيد من تفاقم الأمور، هنا ولتحفظ منزلها من الخراب وأسرتها من الشتات، تلجأ أخيرًا لمركز قروض بالبلدة، يديره نخبة من الرجال الذين اتسموا بالخطورة، ولم يعهد زبائنهم مزاحًا في التعاملات، فلم تجد سبيلًا سواهم.
تتأزم الأمور أكثر، ونواجه مٌعضلة أخلاقية صغيرة في بادئ الأمر، حيث أن مدير مركز القروض -وهو يشتهيها من أولى لحظات وقوع عينيه عليها- يساوم معلمتنا، بأن تمنح ابن أخته وتلميذها بالفصل، درجات مرتفعة، فقد نفذت مدة تسديد دينها، وإن أعطت للطفل ثلاث درجات، منحها الرجل ثلاثة أيام، وإن كانوا أربع درجات، منحها أربعة أيام، فكلما تحلت بكرم درجاتها، تحلى هو بتمديد مدة سداد القرض.. وهي مُعضلة أخلاقية ضئيلة مقارنًة بما آت، فنجدها تمنح كل طلاب الفصل الدرجة النهائية، وبهذا تكون قد تشبثت قدر إمكانها بالنصاب الصحيح للأمور، ولكن يأبى القدر منحها الخلاص.
يتعذر عليها تحصيل المبلغ المطلوب في المُهلة المُحددة، وتذهب لمدير مركز القروض مرة أخرى، فيقرر أن تكون مقايضته هذه المرة مقابل ما استعر داخله من شهوة تجاه مُعلمتنا الجميلة منذ أن رآها، فيُلقى بتهديده في وجهها بدمٍ بارد، موضحًا أنها لو لم تأت بنقوده في الغد، ستضطر بأن تشبعه جنسيًا بناءً على ما يطلبه، ولا يمكن أن يكون هناك ما هو أقذع من مطالبه! يشرع في سرده لأفعال جنسية متعددة سيكون عليها الالتزام بها لو لم تسدد ما عليها، وستفعل هذا راضية وربما تفعله لأتباعه إن تطلب الأمر، وهي تعلم جيدًا أنه لا يعرف المُزاح، وبإمكانه تمامًا أن يجهز على حياة ابنتها وزوجها قبل حياتها هي شخصيًا.
تفكر بأن تلجأ للشرطة، فتذهب بالفعل وتدلف للمكتب، ولكنها تنصرف وقد كبلها رعب ما يمكن أن يصدر عن رجل شهيقه شر وزفيره أذى.
خلال بناء هذه المعضلة أمامنا على الشاشة، وحتى تبلغ ذروة الوطيس، هناك لحظات عديدة بالنص لها مدلولات لن تغادرك، وستزيد من حيرتك في تبني موقف نهائي حول ما ستنتهي له الأحداث، فمثلًا هناك المشهد الذي تكتشف فيه خطأ حسابات البنك، وأنها قد تفقد منزلها لأجل مبلغ لا يُذكر، وبذات الوقت هي لا تملك هذا المبلغ الضئيل، وعليها أن تسابق الزمن، لأن القدر لم يمهلها سوى سبع دقائق سُيغلق خلالهم البنك، فنجدها تسأل المارة بالطريق عن هذا المبلغ، حتى أنها تذهب لنافورة الأمنيات، وتبدأ في لملمة العملات القابعة في قاع الماء، لتحصد هذا المبلغ وتنقذ منزلها من الخراب، والأدهى أنها كانت تبلغ قدرًا من المال في نفس اليوم، ورغم شدة أزماتها، كانت قد أعدت خطة بأن تميّز النقود بعلامة وتضعها فخًا بفصلها، لتتمكن من التلميذ السارق وتعلمه الدرس، فيُسرق المال دون انتباهها، لما داهمها من مشكلة خطأ حسابات البنك، وتقع بعدها في مأزق المبلغ الضئيل الذي لم تعد تمتلكه، لأنها استخدمته طعمًا في بداية يومها ليلتهمه التلميذ السارق.
متوالية الأحداث تلك، ترغمك بشدة على أن تُعجب بإصرار المرأة في سعيها للوصول إلى السارق خفية حتى تعلمه الدرس دون عار يلتصق به، رغم ما حاصرها هي من مشكلات، ويجعلك بذات الوقت تسأم من الظروف حين تُصر هي الأخرى على مداهمة صاحبتها بكل ما هو خبيث، قادر على زهق أنفاسها، فتأتي المعضلة بنهاية الفيلم وقد طلتك بمشاعر شتى، لا تقوى معها على الفصل والبت في حكمك على الأمور، وهي براعة في صياغة النص، يحُسد عليها كتابه، ودعمهم أداء الممثلة مارجيتا جوشيفا، والذي كان جميلًا مؤثرًا، مُحكمًا تمامًا رغم تباين الحالات والمواقف.
نجد مُعلمتنا في ليلة اليوم الموعود، تتحضر وكأنها عروس! ثم نراها في الصباح تتأنق وكأنها على موعد غرامي، فتسأل نفسك وقد خالجك الهلع: "معقول! هل ستذهب للوضيع هذا وتذعن لرغباته المقززة! هل ستستسلم لمثل هذا الأمر في سبيل إنقاذ منزلها! رباه!".. وتتابع في توجس مما قد تُقدم عليه، ثم ترصدها الكاميرا مغادرة لمكانٍ ما، تخلع ما ارتدته من ملابس، لنجد مظهرها قد تغيّر تمامًا، ونتابع رحلتها للوضيع صاحب مركز القرود، وإذا بها تفاجئنا ترد له المبلغ كاملًا دون نقصان، فيفقد هو كل مقومات تهديدها ويسلمها أوراقها دون مقاومة، ينتابنا السرور المفعم بالتساؤل عما فعلته هي لتبلغ خلاصها من مثل هذا المأزق.
لنجدها في المدرسة بغرفة المُعلمين، وقد تعالى في المذياع خبر عن امرأة سرقت بنك بتهديد موظفيه، فينكشف لنا اللغز، وندرك أنها بلغت خلاصها بخطيئة سعيت طيلة الفيلم لتقويمها! وأنت ليس بإمكانك لومها، ولا بإمكانك ألا تبدي ضيقًا لتخليها عن فضيلتها.
ورغم أنها طيلة الفيلم، كلما دخلت فصلها، فتحت موضوع السرقة ومنحت السارق فرصة جديدة، نجدها بخاتمة الفيلم -وقد طالتها ذات الخطيئة- تشخص من جديد أمام تلاميذها، وتصمت غير قادرة على النبش هذه المرة، وقد أمست بحاجة للاستتار مثلما يحتاجه التلميذ الذي بحثت عنه، وربما أكثر! ثم تُظلم الشاشة، ليتعالى نقر الطبشورة الرتيبة على السبورة من جديد، تاركًا إيانا مشدوهين بهذه المُعضلة الأخلاقية المُعقدة التي تأبى إصدار أحكام نهائية، منصتين لنقر الطبشورة الرتيب، وكأنه يُثبت لنا خلال الصمت المُطبق والظلام الدامس، كيف أن دروس الحياة قاسية وغير مفهومة في بعض الأحيان!