تحت إضاءة خافتة مضطربة باعثة على التوتر، تستقر إمراتان على منضدة خشبية في مواجهة بعضهما..
ـ لوشي، حدثيني عن حادث الاغتصاب؟
= ماذا تحديدًا؟
ـ هل تم اغتصابك وحدك؟
(لحظات صمت اغتنمها التفكير)
= لا.. كان معي ثلاثة أخريات من نساء القرية
ـ من الفاعل لوشي؟
= مجموعة من جنود الصرب خلال فوضى الحرب
ـ هل كنتِ وحدك؟ أم تناوبوا عليكم الاغتصاب سويًا؟
= لقد هاجموا المنزل، واجتروني على الأرض، ليفعلوا ما فعلوه.. لقد أجهزوا على منازل عديدة، ولم تسلم أنثى وقعت بين أيديهم.
ربما هذا هو مشهد الفيلم المحوري، من خلال حوار صحفي يدور بين صحفية دولية وبين "لوشي" التي قررت أن تمنحها اعترافًا أرهقها كثيرًا، ولا يعلم عنه مخلوقًا من أهل قريتها.. فمبجرد أن ينفضح أمر الحوار، يدب الشك ضاربًا في قلب كل رجل من سكان القرية، "هل امرأته كانت من تعيسات الحظ اللاتي تعرضن للاغتصاب؟ هل كانت ضمن الثلاثة الأخريات؟ أم أن الأذى ضلّها؟".
ورغم أن الفكرة تحمل من الدراما أطنانًا، باعثة على التحفز لما ستؤول إليه الأمور، وتخيل الفرضيات والتصورات التي ستتقن سوداويتها، ورغم أن مشهدنا هذا هو المشهد المحوري لفيلم "Three Windows and a Hanging"، إلا أنه -كسائر المشاهد- يمر مرور الكرام، دون أن يعلق منه بك ولو فُتاتًا! فكان الفيلم طيلة عرضه، خالي تمامًا من أي روح، أو أي شعور قد تنطلي به، اللهم إلا بعض لحظات الحوار المرحة في افتتاحيته، التي ستخدعك وتمدك بشعور زائف في أنك مُقبل على نص مُتقن التفاصيل ومُفعم بالروح، فيقابلك نص احترف الرتابة، وكسي سيرورته بعبثية مُضجرة عجيبة لا مدلول لها أو طائل.
فيلم بهذه القصة وتلك الفكرة، له أوتار عديدة بإمكانه العزف عليها، وأهمها أن يصوغ شخصياته بإتقان، فنتعايش معهم ونشعر بثقل أزماتهم على صدورنا، لكن هذا لم يحدث البتة، فلا سيدة منهم ستعلق بذهنك للحظة، أو حتى ستستثير بك أي شعور سلبي أو إيجابي، والشعور السائد طيلة الفيلم، هو ذلك الخبر الذي سرى بالقرية، وأخذت شخصيات الفيلم تتناقله ذهابًا وإيابًا بعبثية عجيبة، لم يدعمها حتى تأثر بالشخصيات أو السرد، فكان الأمر مهلهلًا باعثًا على الضجر بشكل مثير للحنق.
الفيلم بدأ ببعض الدعابات الطريفة في حوار قروي بين شخصيات بسيطة، وعشّمنا بأنه سيُصقل تفاصيله بشكل جيد، لتجده بعدما خاض صُلب موضوعه، هرب منه الإيقاع تمامًا، والتهمه الضجر التهامًا، فحتى لو كان مقصد صُناعه هو أن نتعايش مع سريان الخبر ومفعوله ونشعر بواقعية تناقله على الألسنة ليدب الشك في الجميع، فقد أخفق صُناعه أيضًا، لأنهم أهملوا تمامًا رسم شخصياتهم بشكل يدرك التأثير، أو حتى يلفت الانتباه.. فصار الأمر كمسرحية رتيبة عديمة التفاصيل، تنقصها الروح في مُجمل ملامحها.
هو فقط الخبر يتناقله الجميع، مع تصوير النظرة الذكورية المتجنية، بأن من تعرضت للاغتصاب هذه، هي مسؤولة وتستحق أن تُسلسل باللوم وأن تُعامل كمذنبة وموصومة بالعار، وأنت يصلك هذا فقط من الجمل الحوارية للشخصيات، وتناقل الخبر بين ردود أفعال رجال القرية المتعددة، فلا تتأثر أو تنفعل، الأمر كله يزحف أمامك على الشاشة، لا تدب فيه ذرة حياة، فينتهي الفيلم دون أن تعلق بك لحظة منه، وما استقر بداخلك هو سؤال مؤرِّق "كيف لفيلم بمثل هذه الفكرة، وتخلو منه الروح لتلك الدرجة؟"حتى المشهد الوحيد الذي طُعِم بخدعة بصرية مُقبضة جميلة التكوين، في أن يظهر ظل ساقي إمرأة من المغتصبات على الجدار، وكأنها مٌعلقة في الهواء كمن شنق نفسه، فينتهي بأنها خدعة بصرية نسجتها إضاءة الفيلم وكاميرته، بينما المرأة مستكينة هادئة، سعيدة بإحباط آخر ألحقته بك في تأملاتك لأن يكون بالفيلم ما يثير الانتباه أو نستدل منه على الحياة.
ربما إضاءة الفيلم هي أفضل عناصره، هناك تلاعب بالإضاءة في مشاهد عدة يستحق الثناء، وكذلك التصوير شأنه شأن سائر أفلام البلقان، يتميز بسحر مناظره، وتفاصيله الخلابة، غير هذا فكلهم سيتكاتفون من أجل إثارة ضجرك وسأمك واستنكارك.
النص مُهلهل للغاية، فلا طال رسم شخصياته بشكل جيد، ولا بلغ سرد تفاصيله بشكل مؤثر، أو حتى تمكن من حبكته بعض الشيء! فالواقعية التي حاول أن يصيبها، لم يكن لها أي موضع بهذا الرتم الخالي من كل روح، والإخراج تحلى بذات التبلد والبرود، اللهم إلا موقف أو اثنين طريفين، يرسمان ابتسامتك قبل أن يصيبك الجنون!
الأداءات التمثيلية لم تخرج عن منظومة الموت التي غزت الشاشة هي الأخرى، فلا تشعر بمأساة أحدهم، أو ثورة آخر، عرائس ماريونيت حركها نص لا يُتقن التحريك، وإخراج راقه جمود عناصره، بينما أنت تحاول فقط أن تستشف الأحداث وفحوى الفيلم من الجمل الحوارية التي تلازم تكرار تناقل الخبر بين أهل القرية، وإن طمعت بأكثر، فأنت المُلام.
الفيلم سينتهي، دون أن تتأثر به للحظة، ولن تفكر في أي أمر يخصه، بل أنك ستحاول تذكر شخصياته وستخفق! كل ما سيبقى لك هو ذلك الضجر العاتي طيلة مدة عرض الفيلم، وتلك الرتابة الخانقة، مع الروح التي انعدمت تمامًا طيلة عرض الفيلم، فستشعر بالضيق وتتمنى أن ينصرف الأمر عن ذهنك وكأنه لم يكن.
ومع كل هذه المشكلات، ومحاولاتك الجاهدة في اغتنام ما يمكنك من الجمل الحوارية، ستُدرك أن ضحايا الاغتصاب، نُصبت لهم المشانق، من قبل حتى أن يعثر عليهم أهل القرية؛ فهن مذنبات وحاملات للعار الذي لن يزول، فتفكر أنه قهر ما بعده قهر، وتنتظر أن تلمح تلك المشانق النفسية التي حاوطت أعناق السيدات من كثرة ما أثير حولهن من ضغوط، لكنك لا تلمح شيئًا، فلا شخصيات أنت معها اندمجت، ولا سرد نال اهتمامك، ولا إخراج ورطك بمعايشة الأمور، فتستنبط أنت بتصورك -وهو بطل الفيلم الأول- من الجمل الحوارية الصريحة فقط، أن هؤلاء السيدات ضحايا لمنظور مجتمعي متخلف يأبى التحضر، وأنفاسهن ستنزهق تحت هذه الضغوط، وأن المشانق نُصبت لهن، لكنك -ولسوء عناصر الفيلم- لن تشهدها!