"فيكتوريا" ودودة، لن ترتعِب حين تحاول التعرف عليها. "فيكتوريا" مرحة، ستتقبل دُعاباتك وتُبادلها بدعابات أكثر خفة وفُكاهة. "فيكتوريا" متهورة، ستُشاطرك جنونك وترفع مستوياته إلى ما هو أكثر جنونًا. "فيكتوريا" مُحِبة، ربما تقع في غرامك وتسمح لك بأن تقع في غرامها. "فيكتوريا" لا وصف لها، ستُرغمك دومًا أن تتساءل: "ماذا أصابِك يا فتاة؟!
"هذه هي "فيكتوريا"، التي ستصحبنا معها في رحلة عصيبة مُنهِكة للأنفاس، منذ أولى لحظات تبديها راقصة على الشاشة في ظلال إضاءة مترددة بجنون، بينما هي قد اندمجت تمامًا مع نغمات الإيقاع الصاخب، مُتمايلة بجسدها وقد قررت أن تنسى العالم مِن حولها، ستلفت انتباهك منذ أول لحظة، فتنجح في اصطحابك معها برحلة فيلمنا الغامرة بالمواقف والتفاصيل.
التفاصيل، برأيي إن أردت صياغة نص يخترق مُشاهديه وتقبع بداخلهم مواقفه وجُمله الحوارية، فعليك أن تُتقن تفاصيلك لأنها سر نجاح أي نص وحياتنا جميعًا ما هي إلا تفاصيل اجتمعت لتكوّن صورة شاملة متكاملة تترجم ما نحن عليه، وهذا ما أجاده بشدة سيباستيان شيبر مؤلف ومخرج الفيلم طيلة ثلث فيلمه الأول، الرجل غذى نصه وحواره وشخصياته بتفاصيل متقنة ورائعة، لا تملك أمامها سوى أن تلتحم مع الشخصيات وتتوقع ما قد يصدر عنهم، وتشعر بهم لحمًا ودمًا أمامك، فتنسى تمامًا أنك تُشاهد فيلمًا، بل أنت تغوص في الرحلة بمواقفها كأنك أحد أفراد المجموعة، وكأن من تراهم زُمرة من أصدقائك أو زملائك أو أناس تعرفهم!
هو تنقل بسلاسة شديدة بين شخصياته، واستطاع بُجمله الحوارية -التي أفعمها بتفاصيل كل شخص في منتهى الخفة والرشاقة- أن يخترقك ويُقنعك بواقعية ما تشاهد، فتتورط تمامًا في الرحلة ولا يصيبك ملل طيلة الفيلم رغم أنه بتقنية "اللقطة الواحدة الطويلة"، لأنك تتعايش لا تشاهد.. فأنت صرت تُدرك أن "سوني" خفيف الظل ولا ينفك عن إطلاق معلومات مغلوطة عنه أرادت فضح نفسها، مثل أن يخبرها بأنه عازف موسيقى موهوب، وأن عمه كان "موتسارت" بينما هي غارقة في ضحكاتها وقد ألفت أسلوبه في إدعاء مثل هذه الأمور أو "الفَشر" كما نقولها بالدارجة، لكنه إدعاء اتخذ سبيله للمزاح باقتدار، ستدرك أيضًا أن "بوكسر" متهوّر، وأن حياة السجن غلفته بكثير من الخطورة، رغم هذا هو يحمل بداخله إنسان جيد وطيب، ويهتم تمامًا لأن تقتنع أنت بذلك، فهو لن يقبل أن تراه شريرًا، كذلك "بلينكر" المُحب للمزاح دون انقطاع، وربط الأمور بإفيهات مُضحكة، و"فوس" الذي يعاقر الخمر حتى يضيع منه رأسه، ويحتفل بعيد مولده ربما في كل جملة يلفظها، أما "فيكتوريا" فهي ثرية الروح لتستوعب تفاصيلهم جميعًا، ونستوعبها نحن معها ونتجرعها تمامًا، لرشاقة النص في صبغ حواره بمثل هذه التفاصيل الحياتية والحوارية التي تميز كل شخص فينا عن الآخر، فتشعر بأنك واحد منهم، تألفهم وتألف تصرفاتهم وتنتظر ردود أفعالهم وقد صرت تتنبأ بها، شيبر تمكن جدًا من نصه -في بدايته- وحواره ورسم شخصياته بتغذيتهم بالتفاصيل واللعب على أوتارها بمنتهى الرشاقة طيلة الثلث الأول، فجاء النص ملائمًا تمامًا لتقنية اللقطة الواحدة التي صوُر بها الفيلم.
أنت صرت مثل "فيكتوريا"، تعرف أنهم قد يسرقون بعض الأشياء ليحصلون على متعتهم وتكتمل ليلتهم، صرت تعرف "السطح" الذي يصعدون إليه خلسة بأحد البنايات ليمرحون ويلهون سويًا، صرت تدرك كل تفاصيلهم التي تخصهم، واندمجت معهم تمامًا متورطًا في كل ما يصدر عنهم من أمور وأفعال، والتحام "فيكتوريا" معهم وقدرتها الخلابة على مبادلتهم تفاصليم، يُزيد من ألفتك للأمر وتجرعك إياه دون أن تشعر.
هذا حال ما يقرب من ثلث مدة عرض فيلمنا أو أكثر، أنت مقتنع تمامًا ومتعايش تألف كل ما يُعرض عليك، إلى أن يبزغ تحول الأحداث على الشاشة، والمشكلة ليست بتحول الأحداث، فهناك مبررات بالحوار مهدت لما سيحدث، ولكن المشكلة في "فيكتوريا" نفسها، سيصيبك الجنون من إصرار الفتاة على أن توّرط نفسها بأمور أقل ما يقال عنها مميتة! ستبحث عن المبررات وتحاول إيجادها، لكنها ستبدو مبررات واهنة هزيلة تمامًا أمام ما ورّطت نفسها به مع هذه المجموعة! فسيهرب المنطق منذ هذه النقطة تمامًا.
نعلم من الحوار الذي يدور بين الشخصيات، أن "بوكسر" كان في السجن تحت حماية البعض بداخله، وأنه مدين لهم بعد أن خرج بأن يرد مقابلًا لحمايتهم تلك، وسندرك أن عليه زيارة هؤلاء الرجال وبصحبته ثلاثة آخرين، ولأن "فوس" غاب رأسه تمامًا وولّت عنه صحته لكثرة ما عاقره من الخمر، سيطلبون من "فيكتوريا" أن تكون رابعتهم، وأن كل ما عليها قيادة السيارة فقط لا غير.. حتى الآن يُعد الأمر -وإن خرج عن المنطق أن تقبله الفتاة أيضًا- قابل للتصديق ببعض الإرغام وأن الفتاة ستساعدهم لأنها لم تفهم خطورة الأمر بعد، أو أنها مطمئنة لبُعدها عن أي شيء غير شرعي سيقترفونه، سنصدق الأمر أو نتبنى قاعدة "دعني أخدعك، دعني انخدع" وإن صابنا بعضُ من عدم الارتياح.. لكن ليت الأمر توقف عند هذا الحد، "فيكتوريا" تذهب معهم في المهمة، وترى أنهم يتعاملون مع رجال تجسّد فيهم الموت حرفيًا، وأنهم يطلبون من "بوكسر" أن ينفذ لهم عملية سطو مسلح كرد لدين حمايتهم له في السجن، فرأت بعينيها كيف أن الأمر لا يحمل ذرة مزاح أو لهو مثلما سبق، وأن هؤلاء الرجال ينثرون الموت حتى في كلماتهم، ورغم هذا ستوّرط نفسها في المهمة معهم بشكل مثير للاستنكار حد الضيق! فتتساءل طيلة الوقت: "هل أنتِ مجنونة؟ ما الذي يرغمك على هذا؟ ماذا أصابِك يا فتاة؟!"، وفي المهمة نفسها تسوء الأمور عن المتوقع، ويبدأ الشباب في طمأنتها بأنهم سيعيدونها إلى المقهى الذي تعمل به لدرء الخطر عنها، إلا أنها ترفض -في إصرار عجيب- وتتمسك بأن تُكمل معهم المهمة!
توريط "فيكتوريا" لنفسها في مثل هذه الأمور، وأن تُلقِ بروحها في التهلكة حرفيًا، كان أمر غاب عنه الإقناع ويثير استنكارك بشدة، فتبدأ في البحث عن مبررات له لعلك تهنأ بالراحة من سؤالك المؤرق، هل لأنها استلطفت مجموعة الشباب وأحبتهم فأمست تهتم لأمرهم؟ وهل هذا مبرر لأن تُقحم نفسها في النار؟ هل لأنها أحبت "سوني" ووقعت بغرامه؟ وهل هذا الأمر يدفعها بأن تُلق بنفسها في مثل هذا العالم! هل لأنها عاشت طفولة بدت لنا غير سعيدة -خلال لحظات عزفها على البيانو- فأمست الأمور لا تُشكل فارقًا عندها مثلًا، فالحياة والموت لا يختلفان؟! ستشعر بأنك بدأت تلوي ذراع المنطق لتصدق أنها ورّطت نفسها في مثل هذه الأمور ولن تقتنع أيضًا، لأن الأمر فعلًا في قمة الغرابة وغير قابل لأي تصديق، ماذا أصاب هذه الفتاة لتوّرط نفسها في هذه الأمور بينما بإمكانها أن تبتعد تمامًا وتنسحب ناجية بروحها من كل هذا الهلاك؟
هذه كانت غُصة كبيرة لي بالنص أثناء مشاهدتي، لكنك تتابع الرحلة وما انطلت به من خطورة وتحاول أن تتناسى تهوّر "فكتوريا" بإلقائها نفسها في قلب الموت، وتحاول أن ترقب ما ستسفر عنه الأمور، لكن سيغيب عنك التصديق، لتجد الثلث الأخير من الفيلم تفر منه التفاصيل، والتي كان قد أتقنها بجدارة في ثلثه الأوائل، فيزداد عدم اقتناعك بالأمور.
هناك أيضًا أمور ستشعر بأن شيبر أرُغِم عليها، أو أنه لم يجد منها مخرج بسبب تقنية اللقطة الواحدة، فمثلًا "فوس" الذي سقط سهوًا ولم نُدرك أين ذهب أو مآل مصيره، كذلك الرضيع الذي اختطفوه، لم نعلم على ماذا انتهى وضعه، أو عودتهم للاحتفال في الملهى القابع بنفس مكان الجريمة! وغيرها من الأمور التي أفلتت منه في مواضع متباينة بسبب تقنية اللقطة الواحدة، لكنك ستحاول أن تقبل بها، لأن بالفعل التقنية صعبة، وترهقك أنت نفسك كمُشاهد، فما بالك بُصناع العمل؟ أنت بالفعل قُرب خاتمة الفيلم، ستشعر بأن رأسك يدور، وأن أنفاسك ضاقت، كأنك تعيش الرحلة فعلًا، التقنية قدر جمالها وما تقحمك فيه من التحام ومعايشة للقصة، إلا أن الأمر مُرهق فعلًا، لكنه يستحق التجربة دون جدال، ورغم أن الفيلم تجاوز الساعتين في مدة عرضه -مع تقنية تصويره- إلا أنك لن تمل لحظة، وهي من النقاط التي تُحسَب له.
الأداءات التمثيلية كانت جميلة، والفتاة ليا كوستا في دور "فيكتوريا" أوقعتني في غرامها بمنتهى السهولة، هي تلقائية بشكل بديع، وتحمل من خفة الروح ما يجعلها غير قابلة للمقاومة، كذلك فريدريك لاو في دور "سوني" متميزًا للغاية، وستحبه رغمًا عنك، فتنتظر دعاباته الخارجة عن المنطق، والحنُو الذي يغلب على تصرفاته في معاملته لـ"فيكتوريا"، وفرانز روجويسكي في دور "بوكسر" فعلًا يُشعرك بأنه طيب وفي نفس الوقت مجنون قد يصدر عنه ما هو غير محسوب، الأداءات كانت موُفقة للغاية.
تقنية اللقطة الواحدة لا شك أنها بديعة فعلًا لها سحرها الخاص، ومُرهقة تورطك بالرحلة تمامًا فلا تفلت منك لمحة، صحيح ستشعر معها بأن كثير من الأمور هربت من النص أو يفلت منها الإيقاع لطبيعة التصوير بهذه التقنية، لكنك قد تتقبلها مقابل ما ستشعر به من متعة والتحام مع أحداث الفيلم وشخصياته وتفاصيلهم.
سيباستيان شيبر يستحق الثناء على حواره ومراعاته لكيفية صياغته في أنه سيُصوّر كلقطة واحدة، فتمكن تمامًا من شخصياته ومدِها بالتفاصيل المميزة، فكتب حوارًا يصب بالألفة بين الشخصيات وواقعية علاقاتهم، كذلك هناك بعض اللحظات التي لن تغادرك أبدًا، أبرزها لحظات حوار "فيكتوريا" و"سوني" في المقهى الذي تعمل به ثم عزفها على البيانو، لحظات بديعة من أولها لآخرها، ستخترقك تمامًا بكل تفاصيلها.
الفيلم فعلًا جيد لكن به مشكلات، ربما سيظفر بإعجابك، وتحب طريقة تصويره بما ستسببه لك من إرهاق وتورّط، لكن حتمًا سيضايقك هروب المنطق في بعض خيوطه، وأهمها كيف لـ"فيكتوريا" أن توّرط نفسها بمثل هذه الأمور ولماذا؟! ربما يروقك الفيلم وتألف شخصياته وتعشق "فيكتوريا" بحق، لكنك ستتساءل بجنون طيلة الفيلم عما أصاب تلك الفتاة.