كان عقد السبعينات برمته عقدًا غير اعتياديًا بالنسبة لصناعة السينما الأمريكية، بل لا نخطيء القول بأنه كان عقدًا ثوريًا تمرد فيه صانعو الأفلام الجدد في هذه الفترة على كل الميراث السابق للعقود الماضية ورفعوا فيه السقف بالنسبة لكل ما يمكن تقديمه على شاشة السينما سواء على مستوى الموضوعات والتيمات أو على المستوى التقني، وهذه الحالة الثورية لم تكن استثناء بالنسبة للسينما فقط، بل كانت إرهاصة لحالة عامة كان المجتمع الأمريكي يمر فيها بتغيرات اجتماعية وسياسية جذرية: تصاعد حدة الحرب الباردة، احتجاجات لا تنقطع ضد استمرار الحرب في فيتنام، فضيحة ووترجيت التي أطاحت بالرئيس ريتشارد نيكسون، غزو الفضاء، الصعود المتنامي لحركات الحقوق المدنية وانتصاراتها المتتالية في محاربة كل أشكال التمييز التي عرفتها العقود السابقة ضد المواطنين الأمريكيين ذوى الأصول الأفريقية والنساء والمثليين، اهتمام متزايد بالديانات والمذاهب الروحانية الشرقية، تغير الذائقة الموسيقية.
وفي السينما ارتفع السقف عاليًا ليشهد هذا العقد المضطرب علامات سينمائية تركت أثرًا باقيًا، عشرات الأفلام التي غيرت إلى الأبد مفاهيمنا التقليدية عن تجربة المشاهدة: Jaws وThe Godfather وTaxi Driver وThe Exorcist وAnnie Hall وOne Flew Over The Cuckoo's Nest وRocky وApocalypse Now وChinatown وCarrie وAll The President's Men وSaturday Night Fever، وبالطبع وسط كل الأفلام وغيرها الكثير لا يمكن المرور على هذه الحقبة بدون أن نذكر سلسلة الأفلام التي صنعت ثورة كاملة في شكل المغامرة السينمائية: Star Wars.
كان المخرج الأمريكي الشاب جورج لوكاس قد درس السينما على نحو أكاديمي في مدرسة فنون السينما بجامعة كاليفورنيا الجنوبية، وبدأ شيئًا فشيئًا في تحقيق شغفه بالسينما من خلال عدد كبير من الأفلام القصيرة والوثائقية التي عمل عليها حتى مطلع السبعينات، ثم ما لبث أن قدم أول أفلامه الطويلة التي تنتمي لفئة الخيال العلمي THX 1138 في عام 1971 والذي بناه بالأساس عن إحدى أفلامه القصيرة التي قدمها وقت دراسته الأكاديمية، وكان الفيلم الطويل أول انتاج لشركة American Zoetrope التي أسسها لوكاس مع رفيق دربه المخرج فرانسيس فورد كوبولا بهدف تقديم أفلام متحررة تمامًا من سطوة نظام الاستوديو البغيض الذي كان له اليد الطولى على هوليوود طيلة العقود الماضية.
لكن THX 1138 لم يحقق النجاح المرجو منه، وقام لوكاس لاحقًا بتأسيس شركة إنتاج خاصة به تحمل اسمه وهى Lucasfilm ليقدم من خلالها مشروع فيلمه الروائي الثاني الطويل American Graffiti بعد تحد أبرمه "كوبولا" مع صديقه لوكاس على تقديم فيلم يمكنه أن يلاقي صدى جماهيري، وقد قبل لوكاس التحدي، وقام بصناعة الفيلم بعد معاناة شديدة في جمع تمويل ملائم للبدء في إنتاج الفيلم، وقد اؤتي الأمر ثماره، فالفيلم الذي أُنتج بميزانية 777 ألف دولار فقط قد حقق إيرادات في شباك التذاكر وعائدات في الوسائط المنزلية وصلت لمائتي مليون دولار، وترشح أيضًا لخمس جوائز أوسكار.
لكن عيون لوكاس لم تقنع بما في الأرض فقط، فقد كانت عيناه وكيانه وطموحه الكبير تتطلع لما في الفضاء البعيد، فكان منذ الصغر مبهورًا لأقصى حد بسلسلة وقصص فلاش جوردون المصورة، وكان يعشق متابعتها حتى مع رداءة صنعها، وكان يحلم باقتباسها إلى السينما، وقد سعى بالفعل مطولًا للحصول على حقوق إنتاجها بعد إبرامه لصفقة مع شركة United Artists لإنتاج فيلمي American Graffiti والفيلم الجديد المقتبس عن سلسلة فلاش جوردون، لكنه لم ينجح على الإطلاق في الحصول على حقوق السلسلة مما أحزنه للغاية، ومن هنا جاءت الفكرة: أن يصنع عالمه الفضائي الخاص به، وأن يصدح عاليًا بالأوبرا الفضائية خاصته.
منذ مطلع عام 1973، عكف لوكاس بكل طاقته ومجهوده على العمل على مشروعه الجديد الذي أسماه في البداية The Star Wars، وكان يكتب لمدة ثمان ساعات يوميًا على مدار خمسة أيام في الأسبوع، جمع في عمله أشياء كثيرة مما تأثر بها خلال النشأة، وصنع خليطًا هائلًا من الميثولوجيات التي كان يقرأ عنها خاصة مع توطد صداقته بعالم الميثولوجيا الشهير جوزيف كامبل، كما شاهد خلال هذه الفترة العديد من أفلام الخيال العلمي التي كانت تقع تحت يديه من أجل دراستها وملاحظتها بإمعان، وكان ناتج عمله الشاق أربعة مسودات لسيناريو الفيلم الذي كان يحاول من خلاله أن يصل إلى المعادلة المناسبة حتى وصل إليها في عام 1976 مع الانتهاء من المسودة النهائية.
على صعيد الشروع في البحث عمن يوافق على تمويل الفيلم، لم يكن الأمر يسيرًا، فقد تراجعت United Artists عن اتفاقها ورفضت تمويل المشروع السينمائي الواعد، فتوجه لوكاس مع المنتج جاري كوريتز إلى ستوديوهات Universal التي شاركت في تمويل American Graffiti من قبل، لكن هذا الإستوديو هو الآخر رفض، لأن القائمين عليه رأوا أن ما يعرضه لوكاس من خلال نصه شيء غريب، ونصحوه بأن يقدم فيلمًا جديدًا على غرار American Graffiti، فأفلام الخيال العلمي وقتئذ لم تكن بهذا الرواج الكبير التي هى عليه اليوم، ولم يعتقدوا أن الأمر سينجح لأنهم كانوا يتطلعون لما هو رائج اليوم، وليس لما سيكون رائجًا في المستقبل.
سبب آخر كان حاضرًا في الأذهان من رفض تمويل الفيلم، وهو التكلفة العالية التي سيتطلبها إنتاج فيلم كهذا، لكن لوكاس وكوريتز حاولا خفض تكاليف الإنتاج المقترحة في سبيل الحصول على تمويل، وقد تراوحت الميزانية المقترحة بين 8 و10 مليون دولار أمريكي، وكانت بحق أرقام منخفضة جدًا بمقاييس هوليوود في تلك الفترة، بل إن الميزانية المقترحة كانت قريبة من ميزانيات أفلام المنتج الشهير روجر كورمان ملك أفلام الدرجة الثانية في ذلك الوقت، ثم عرضا المشروع على شركة والت ديزني لكن الشركة رفضت كمن سبقها، والمفارقة الكبرى أن والت ديزني بعدها بعقود قد صارت ضالعة في إنتاج الجزء السابع من السلسلة The Force Awakens الذي سيعرض عالميًا خلال أيام معدودة بعد استحواذها على Lucasfilm في عام 2012.
لم يكل لوكاس وكوريتز من الرفض المستمر من إستوديوهات هوليوود، وأصرا على الاستمرار حتى ينجحا، وكانت المحطة التالية هى شركة 20th Century Fox التي كان يترأسها وقتئذ الآن لاد جونيور، ونجح لوكاس بالفعل في إقناعه فعليًا بتمويل الفيلم بـ8 مليون دولار على الرغم من كون لاد لم يعي بشكل كامل كل الجوانب التقنية في المشروع، لكنه وثق بموهبة لوكاس.
بدأ لوكاس مع فريقه من المصممين، ومن بينهم كولين كانتويل الذي عمل مع المخرج الراحل ستانلي كوبريك على فيلمه الأبرز 2001: A Space Odyssey على العمل على تصميمات المركبات ومواقع التصوير وتصميمات الملابس والمعدات والمركبات الفضائية من قبل حتى حصولهم على إشارة الانطلاق من شركة Fox بعد الحصول على التمويل اللازم، وتم تشكيل 30 موقعًا للتصوير بالكامل، وهى المواقع التي تدور داخل الكهوف وغرف التحكم والسفن الفضائية وممرات نجمة الموت.
وجاءت أخيرًا مرحلة التصوير الخارجي التي بدأت في الثاني والعشرين من مارس في عام 1976 في تونس التي استمر التصوير بها لمدة أسبوعين ونصف بالرغم من بعض المشاكل التي وقعت خلال التصوير مثل سوء الأحوال الجوية بفعل عاصفة ممطرة ضربت البلاد وتعطل بعض الأجهزة المعاونة، ثم انتقل التصوير لاحقًا إلى إستوديوهات الستيري في بريطانيا من أجل تصوير المشاهد الداخلية.
لكن الميزانية الموضوعة للفيلم كانت غير كافية لتغطية كل التكاليف اللازمة، ولم يكن هناك مفر من زيادة الميزانية قليلًا لاستكمال باقي العمليات الضرورية، وهو الأمر الذي أخاف المسئولين التنفيذيين في Fox، ولكن مع ذلك تمت زيادة الميزانية إلى نحو 10 مليون دولار، وتم تقسيم فريق العمل إلى ثلاث وحدات للتصوير من أجل الانتهاء في الوقت المحدد الذي وضعته الشركة، وهو الأمر الذي دعى لتأجيل طرح الفيلم إلى صيف 1977 بدلًا من طرحه في موسم الكريسماس في عام 1976.
يضاف إلى هذه المشاكل تعرض بطل الفيلم مارك هاميل لحادث سيارة مما أدى إلى كسر في اﻷنف والخد اﻷيسر، وهو اﻷمر الذي ترك أثرًا على وجه مارك، مما دعى لوكاس إلى إعادة تصوير عدد من مشاهده مرة أخرى بالإضافة إلى الاستعانة ببديل له في مشاهد ركوب مركبة الـLandspeeder.
كانت مرحلة ما بعد الإنتاج هى اﻵخرى مرحلة ضاغطة على أعصاب لوكاس، فلم يكن راضيًا على اﻹطلاق عن النسخة اﻷولى بعد المونتاج والتي كانت مختلفة عن النسخة النهائية منه بنسبة قد تصل إلى أربعون بالمائة، وفي سبيل ذلك قام باستبدال المونتير جون جيمبسون بكل من بول هيرش وريتشارد شيو، كما استعان كذلك بمارسيا لوكاس - التي صارت زوجته فيما بعد - لكي تشارك في عملية المونتاج في نفس التوقيت الذي كانت تعمل فيه على مونتاج فيلم New York, New York مع صديق لوكاس المخرج مارتن سكورسيزي، وقد وصلت الميزانية النهائية للفيلم بعد زيادة تكاليف المؤثرات البصرية والسمعية إلى 11 مليون دولار، خاصة مع استخدامه غير المسبوق كمًا وكيفًا للمؤثرات البصرية وقتئذ.
كل هذا العناء الذي لاقاه لوكاس ومن معه للخروج بالفيلم قد جاء بفائدة عظيمة، بل كانت النتيجة النهائية تفوق كل التوقعات التي يمكن التفكير بها، فقد بات الفيلم واحدًا من أنجح اﻷفلام في تاريخ السينما على اﻹطلاق في شباك التذاكر، كما دخل بقوة في قائمة اﻷفلام اﻷعلى تحقيقًا للربح، فالفيلم الذي تكلف إنتاجه 11 مليون دولار قد حقق إيرادات بلغت 530 مليون دولار ووصل هذا الرقم ليصير 775 مليون دولار بعد إعادة عرضه مرة أخرى في عام 1997، وظل الفيلم متسيدًا لقائمة أعلى اﻷفلام تحقيقًا للايرادات حتى عام 1983 مع عرض فيلم E.T. the Extra-Terrestrial.
ولم يتوقف النجاح عند الجماهير فقط، بل امتد لاحتفاء نقدي كبير بمنجز لوكاس الكبير الذي أحدث نقلة ضخمة في أفلام الخيال العلمي، وانهالت المقالات النقدية التي تشيد بالفيلم من كل حدب وصوب. ومع حلول موسم الجوائز، كان تقدير المنجز الفني للفيلم شيئًا بديهيًا، فقد ظفر الفيلم عن استحقاق بست جوائز أوسكار في فئات اﻹخراج الفني وتصميم الملابس والمونتاج والموسيقى التصويرية والصوت والمؤثرات البصرية، كما كان الفيلم مرشحًا كذلك لجوائز أوسكار أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل سيناريو وأفضل ممثل مساعد للبريطاني أليك جينيس.
لم ينتهي حديثنا عن Star Wars عند هذا الحد، فسوف نخصص المقالات القادمة من هذا الملف عن حصاد الماراثون التي قمنا به - والذي قام به بالتأكيد العديد من عشاق السلسلة ومن لم يشاهدها بعد - لجميع اﻷفلام الستة في السلسلة، والتي سنبدأها بالثلاثية اﻷولى التي بدأت في 1977، ثم الثلاثية الثانية التي بدأت في عام 1999، ونختمها بمقالة نقدية عن الفيلم السابع المنتظر عرضه في دور العرض السينمائية في نهاية اﻷسبوع.