تحذير: النصف الثاني من المقال يحتوي على (حرق أحداث).
هناك صحوة حقيقية حدثت للقوة.. صحوة صَحَبها استيقاظًا للعديد من الأشياء الأخرى. الحنين.. الأجواء.. الصنعة.. وأهمها جميعًا، الروح الطِفلة التي تريد أن تلهو وتلعب قبل كل شيء. عندما صَنَع جورج لوكاس الجزء الأول من حروب النجوم، أراد تقديم حدوته خيالية للأطفال في عصرٍ لم تعد فيه حواديت. ولم يأت مزيجه بين الأسطورة والخيال العلمي والدين مُصادفةً، فقد شرع لوكاس يبحث بعناية فائقة في القصص التقليدية قبل كتابة الفيلم، وفي الميثولوجيا، وفي علم النفس أيضًا. والآن، بعد أكثر من 35 عامًا، نجح المشاغب جيه جيه أبرامز في اقتناص هذه الروح ببراعة، وأخذنا جميعًا في رحلة خلَّابة جديدة إلى زمن بعيد بعيد، في مجرة بعيدة بعيدة.
بشكلٍ عام، الفيلم مُرضي وليس خيبة أمل عظيمة كـ Jurassic World مثلًا.. رغم أنه اتَّبع ذات المُعادلة التي صاغها الأخير بحذافيرها (الخط الرئيس للفيلم الأصلي + "نوستالجيا" + العودة لأماكن وأشياء آلفناها على مدار السلسلة)، وبالتأكيد مثله، سيجمع The Force Awakens أطنانًا من الدولارات.
على مستوى الصنعة، تمكَّن جيه جيه أبرامز من إحياء الإرث الهائل للثلاثية بمهارة وحذق كبيرين، ولم يلجأ للاستسهال قط كما فعل لوكاس مع الـ Prequels. تحاشى أبرامز كل ما أثار سخط الجميع في تلك الأفلام، ولم يُقحم مؤثراته الخاصة في كل مشهد بداعٍ وبدون داعي.. ومُتعلمًا الدرس، لم يُفرط في استخدام الـ CGI.. بل مزج جميع العناصر برصانة ووعي، ودفعها جميعًا لخدمة القصة لا أن تصير بطلة ذاتها، وهي الجريمة التي ترتكبها كل أفلام هوليوود مؤخرًا عن سبق إصرار وترصُّد.
الفيلم ليس ضخمًا جدًا، وهذا شيء جيد بالمناسبة، لقد مللنا الأفلام الضخمة التي تحوي مشاهد ضخمة ومضمون خاوي طيلة الوقت. بل على النقيض، هناك حميمية كبيرة هنا، واهتمام عميق بخلق شخصيات من لحم ودم يستطيع المُشاهد الارتباط بها والتعلُّق بمصائرها. أيضًا هناك أداءات تمثيلية حقيقية في الفيلم، وهو شيء لم نعتده كثيرًا في حروب النجوم، خاصةً في حلقاتها الأولى والثانية والثالثة.
شيء آخر أرضاني كثيرًا هو عودة مفهوم "القوة" إلى فكرته القديمة شبه الصوفية.. طاقة كونية تُحيط بجميع الأشياء والأجساد وتخترقها، وتربطها معًا، وتحمل قُطبين مُتضادين كأيِّ مغناطيس يحترم نفسه. أثيرٌ ما روحاني، وليس جُسيِّمات مادية سخيفة -ميديكلوريانس- يمكن عَدَّها وقياسها بأجهزة إلكترونية كما حاول لوكاس إقناعنا في الـ Prequels، وأفسدها علينا. لقد استخدم أبرامز كلمات يودا تقريبًا في وصف القوة من الحلقة الخامسة The Empire Strikes Back، وكانت تلك تفصيلة مُنعشة بحق.
الطاقم الرئيس والداعم أفضل ما في هذا العمل. الكل تألق.. كُلٌ في موضعه وبرونقه الخاص. الجميع اجتهدوا، الوجوه الجديدة على السلسلة، والأبطال المخضرمين على حدٍ سواء. ها هو هاريسون فورد يحشر جسده المُسِن في شخصية هان سولو، ويعيد إليها كل بريقها القديم.. نفس الروح، نفس الأداء المتهوِّر وخفة الظل الساخرة من كل شيء، بل نفس نبرة الصوت. أيضًا لقد عاد وغد كما عهدناه في الجزء الأول، لا يتورَّع عن إلقاء رجلًا بدم بارد بين فكي وحش لإنقاذ نفسه، ويطلق النار أوَّلًا على الجميع دون أن يهتز له جفن. لقد نجح أبرامز في مغازلة مُحبي السلسلة ببراعة بكل التفاصيل الصغيرة التي ضَمَّنها في عودة هان سولو. تشوباكا بدوره كانت مُحبَّبًا، وليا حظيت بتكريم يليق بها، وظهور لوك سكايووكر الخاطف كان عظيم الأثر.
أما عن الوجوه الجديدة فحدِّث ولا حرج. الصداقة التي تنشأ بين المُجنَّد المُتمرِّد فين (جون بويجا)، مع أفضل طيَّار في المجرة بو (أوسكار إيزاك)، شكَّلت عودة موفقة لروح التحالفات القديمة، وذكَّرتنا بعلاقة هان سولو ولوك العتيدة. راي (ديزي ريدلي) الرقيقة الجميلة التي تخطف الأنظار والقلوب في كل مشهد تظهر به، والتي هي ربَّما أفضل عناصر التمثيل بجوار هاريسون فورد، كانت تَشِع حرفيًا طيلة الأحداث. وبالطبع الآلي الجديد BB-8، الكرة المعدنية الخرقاء التي تحمل جميع الانفعالات الودودة لبني البشر، لم يقل ظُرفًا وبراعة عن R2-D2. بل استطاع سرقة الأضواء من فتاة بجمال ديزي ريدلي في كل المشاهد التي جمعتهما سويًا.. لماذا؟ لأنه كان موجودًا بالفعل أمام الكاميرا.. أنيماترونيك بجسد حقيقي يتم التحكُّم به عن بُعد، وليس مجرد شخصية رقمية أخرى من التي قاربت إزهاق أرواحنا، ولهذا كل التحية لأبرامز. يكفي أن تعرف أن الرجل صنع كل مخلوقات الفيلم بهذه الطريقة الصعبة، في عصر بات الاستسهال فيه هو اسم اللعبة (وحشٌ ضخمٌ ظهر لمدة 15 ثانية على الشاشة كان دمية هائلة مُتقنة الصنع). هل يعني هذا أنه لا وجود للـ CGI في الفيلم؟ بالطبع لا، هناك الكثير منه بالطبع، لكنه استُخدم فقط حين فشلت كل المحاولات الأخرى، ومن أجل خدمة القصة لا استعراض العضلات.
شيء واحد تقريبًا ستشعر أنه خارج عن السياق، هو وجود شخصيتان (سنوك "أندي سيركس"، وماز كاناتا "لوبيتا نيونجو") تم صنعهما عن طريق تكنولوجيا الـ Motion Capture وليس المكياج أو نماذج الأنيماترونيك. هنا فقط شعرت بشيء من عدم الارتياح، لكنهما لم تَفسِدان أيَّ شيء في الواقع، فضلًا عن أنهما حظيا بوقت قليل نسبيًا على الشاشة.
أفضل تتابعات الفيلم أتى حينما كان فين وراي يحاولان الهروب من كوكب جاكو.. في هذا التتابع وصل أبرامز للذروة بالمؤثرات وبهلوانيات التصوير. أيضًا جميع مواقع التصوير خرجت ممتازة، ومرَّة أخرى هي ليست مُجرَّد خلفيات حاسوبية باهتة.. بل صحاري، وغابات، وثلوج حقيقية.. هذه مواقع تصوير مفتوحة شُيِّدت لها ديكورات هائلة، وتمكَّن أبرامز من التغزُّل فيها بعدسته باقتدار.
الإحالات -أو الـ Easter Eggs- للأفلام القديمة لم تتوقَّف بدورها، لكنني لن أسرد أيًا منها -أو الذي لاحظته منها في المشاهدة الأولى على الأقل- لأدعك تستمع باكتشافها بنفسك، كل ما سأقوله أن بعضها واضحًا جدًا للعيان، وبعضها الآخر مستترًا بشدة ويتطلَّب عينًا مُتفحِّصة لاكتشافه.
وبالطبع لا يمكن الحديث عن أي فيلم من أفلام حروب النجوم دون أن نأتي لذكر المؤلف الموسيقي جون ويليامز. في لقاء قريب معه، قال أبرامز أن أيَّ مخرج يجد ويليامز مُشاركًا في فيلمه فهو يغش بشكل أو بآخر، لأن ويليامز -على حسب تصريحه- قادرًا على كتابة المشاعر ذاتها في نوتات موسيقية. ألَّف ويليامز مقطوعات جديدة تمامًا للفيلم ستصنع أسطورتها الخاصة مع توالي الأجزاء القادمة، بالإضافة إلى المقطوعات الأصلية الخالدة أبدًا. ومن أوَّل مشهد في الفيلم، ينجح الرجل بموسيقاه في غمسك تمامًا في تلك المُغامرة المجرَّاتية الجامحة.
كل هذا جميل جدًّا، لكن -هناك دائمًا لكن للأسف- أعتقد أن جيه جيه كانت أمامه فُرصة لإنهاء الفيلم ولملمة خيوطه بشكل أكثر تماسكًا، وأفضل بكثير ممَّا حدث. هذا فيلم لن يُصدِّق عليه المولعين بالسلسلة بهذه السهولة، لأن الأمر في الحقيقة ليس سهلًا أبدًا.
في النصف الثاني من الأحداث تشعر أن كثيرًا من السرد المُتمهل والسلس اللذي بدأ به الفيلم قد تم هجره مرَّة واحدة. رويدًا رويدًا بدأ الفيلم يقفز خطوات سريعة غير مُفسَّرة -ولا مُبرَّرة- أضرت به بعض الشيء. كيف استطاعت ريا استكشاف قوتها وهي في أوهن لحظاتها، وبهذه السرعة؟ نحن نتحدَّث هنا عن ساعاتٍ معدودة. لقد تحوَّلت من ضحية هاربة طوال الوقت إلى نِصف مُحاربة فجأة، وتمكَّنت من دحر شرير الفيلم كايلو رين (أدم درايفر) بسهولة حقيقية. أيضًا فجأة، أصبح كايلو رين -الذي غُرس له جيدًا، وقُدِّم وكأنه يفوق دارث فيدر قوة- مخنثًا إلى حدٍ كبير، يتلقفه المُجنَّد المُتمرِّد فين، ثم راي، في معركتين متتاليتين، ويُجهزان عليه في قتال بسيوف الليزر التي لم يَمِسَّاها من قبل، بينما هو المقاتل المُحنَّك. لم أستطع استساغة هذا التتابع قط، وأعتقد أنني لن أستسيغه أبدًا.
الفيلم كان بحاجة إلى شرير أكثر قوة من كايلو رين، الذي وإن كان تقديمه يشي بشرير جبار، لم يرق في النهاية إلى المستوى المطلوب. ما أثار استيائي حقًّا هو رؤية جندي من جنود الجمهورية الجديدة، يقف في مواجهة لورد سيث جديد -بل وحفيدًا لدارث فيدر- ربما غير مُكتمل القوة لكنه عنيفًا بما يكفي. تلك التفصيلة أنقصت من قوة الفيلم كثيرًا بالنسبة لذوقي، وأعتقد أنها ستفعل كذلك مع غالبية المولعين بالسلسلة.
أيضًا، شيء هام بخصوص الحبكة قد يؤخذ ضدها أو ربَّما في صفها، هذا يعتمد على ما إذا كنت متحفزًا ضد الفيلم أو مُستسلمًا له. الخط الدرامي للأحداث نسخة طبق الأصل من الحلقة الرابعة A New Hope في كل شيء. البداية المُفاجأة التي تلقي بك وسط الأحداث، وهروب BB-8 حاملًا (رسالة مهمة) إلى كوكب (صحراوي)، ثم تعثُّره في راي التي تُبقيه وتصبح مُهوَّسة بـ (توصيله سالمًا إلى الثوار)، وهروبها بعد ذلك برفقة فين من كوكب جاكو على متن (الـ Millinum Falcon)، ومقابلتهما لـ (هان سولو وتشوباكا)، و(انضمامهما للثوار). ثم عودة الجميع بعدها لتدمير (الكوكب الجديد) للشبيه بنجم الموت، مُقسَّمين إلى مجموعتين: مجموعة تُقاتل في الفضاء في معركة جوية، ووحده صغيرة تتسلَّل إلى الكوكب ذاته. وفي النهاية (ينفجر الكوكب)، وينجو (الشرير) كايلو رين. هل يذكِّرك كل هذا بشيء؟ بالتأكيد، إنه تقريبًا تتبُّع حثيث لأحداث الحلقة الرابعة. كما قلت الأمر سيعتمد على رؤيتك الخاصة، فقد تعتبره تحية عظيمة لمجد الجزء الأول، أو مجرد سيناريو مُتراخٍ كسول فضَّل البقاء في المنطقة الآمنة.. لكن الذي لن يخطئه أحد بالتأكيد هو أن الفيلم إعادة إنتاج بشكل أو بآخر للحلقة الرابعة..
لكن أعتقد أن هذا لا يهم كثيرًا، فلا تنس أن الفيلم هو الفصل الأول من ثلاثية جديدة تمامًا. لذا دعنا ننتظر ونرى ما ستحمله لنا الأجزاء القادمة. أمورٌ عديدة لم تُفسَّر، وهذا مفهومًا بالطبع، لكننا سنكتشفها تباعًا مع كل فيلم جديد. المهم حقًّا هو أن القوة استيقظت أخيرًا من سُباتها العميق، ولا أعتقد أنها ستعود إليه في أيِّ فترة قريبة.
ملحوظة أخيرة: رحيل هان سولو كان مُشرفًا جدًّا، ومباغتًا لدرجة فغر الأفواه، ومن أفضل مشاهد الفيلم. لقد أتى في اللحظة التي أشعرك فيها جيه جيه أبرامز أنه يقود فيلمه للهواية.. لكنه -الوغد- كان يعرف ما يفعله حقًّا هذه المرة.