"منذ بداياته الأولى، أتاح الفيلم لملايين المشاهدين حوال العالم، الرومانسية وفرص الهروب من الواقع القاسي خلال البساط السحري للسينما. لقد قدمت السينما الترياقَ لمتابعيها في سنوات الكساد الاقتصادي العظيم 1929، وأُعُتبِرت الأفيون الذي يساعدهم على تخطي جراح الحرب العالمية الثاني"
رونالد برجان Ronald Bergan، في مقدمة "كتاب الفيلم The Film Book"
كيف بدأت السينما؟
ومَنْ هؤلاء الأفذاذ الذين طرقوا هذا الباب السحري، وفتحوه لأجيال مُتعاقبة تحاول فهم العالم من خلال هذا الشريط الذي يدور، فيعكس لنا عوالم لم نرها من قبل؟
وإلى أي مدى ستظل هذه الشاشة المستطيلة تأسر العقول وتخلب القلوب بحكاياها التي لا تنتهي؟
أحاول خلال هذه الحلقات التي لا أعلم عددها بالتحديد، أن أطرق الباب مرة ثانية والتجوال في صفحات التاريخ السينمائي وقصص أعلامه، الذين لطالما كانوا محط أنظار العالم.
رغم أن تاريخ السينما يعتبر مديدًا مقارنة بحياة البشر، إذ يتخطى القرن وبضع عقود، إلا أنه إذ ما قُورن بتاريخ الفنون الستة الأخرى، يعد طفلاً يحبو، لكن أيضــًا السينما بكم الأعمال التي قُدمت من خلالها، ونوعياتها، لا تقل عظمة عن الموسيقى بتاريخها الذي يمتد لآلاف السنين، أو النحت الذي جاء مع ظهور الحضارات.
توماس إديسون، الذي عرفنا معه اختراع الكهرباء والفونوجراف، هو أحد رواد صناعة الصورة، إذ بزغت فكرة صناعة الجهاز المعروف باسم الـ"كينتوسكوب Kinetoscope" على يديه في عام 1888، ثم قام بتطويره تلاميذه خلال الأعوام 1889، 1892 وعلى رأسهم ويليام ديكسون.
آلة استطاع العَالَم من خلالها أن يتعامل مع الصورة، ويشاهد الصور المتتابعة بشكل متحرك، في تطور بالغ الأهمية يتخطى الصورة الفوتوغرافية الثابتة.
في نفس الفترة التي ظهر فيها الكينتوسكوب الذي وصل طوله قرابة المتر ونصف، كان الفرنسي أنطوان لوميير، يمتلك ستوديو تصوير في مدينة ليون، وكان لديه نجلين أوجست، ولويس، اللذين كانا يعملان على اختراع آلة تنافس الكينتوسكوب وهي "السينماتوجراف"، والتي صنعها المخترع الفرنسي "ليون بولي Léon Bouly" والذي لم يستطع أن يكمل تجربته نظرًا للعجز المادي مما حدا به لبيع الفكرة والاختراع لأوجست ولويس، ليصنعا أول فيلم لهما عام 1895 والمعروف باسم "La Sortie de l'Usine Lumière à Lyon أو العمال يغادرون مصنع لوميير في ليون" (1).
في هذا الفيلم يرى البعض أن التصوير لم يكن ارتجاليــًا أو مفاجئــًا بل تم الإعداد له، إذ أن عمال المصنع الذين يظهرون في الصورة لا ينظر أي منهم للكاميرا أو يمر أمامها.
وإذا ذُكر الأخوان لوميير، لا يمكن إغفال فيلمهما القصير جدًا "القطار يصل إلى المحطة "L'arrivée d'un train à La Ciotat" عام 1896، والذي وصل طوله إلى حوالي 50 ثانية. فيلم من لقطة واحدة لدخول قطار إلى رصيف المحطة.
ويُروي أن المشاهدين عندما رأوا القطار يقترب اختبأوا تحت كراسيهم ظنــًا منهم أن القطار (2) حقيقي.(3)
كذلك فيلم L'Arroseur arrosé أو Watering the Gardener الذي أنتجه الأخوان لوميير عام 1895-1896، وأخرجه Francis Doublier والذي يعتبره الكثيرون أول فيلم كوميدي في تاريخ السينما (4).
من المثير للاهتمام أن الأبحاث التي كان يجريها المهتمون بالصورة وصناعتها لم تتوقف، إذ كانت الأغراض التجارية لا تنفصل عن العلمية وذلك من أجل تقديم أفضل شكل ممكن لتحريك الصورة بشكل طبيعي بالنسبة للمشاهد، فخلال هذه الفترة وصل الأمر إلى عرض ما بين 12 إلى 16 صورة في الثانية حتى 1920، حتى أصبح المستوى الذي يمكن القياس عليه هو 24 صورة في الثانية.
شريط الفيلم الذي أمسك به الكثير منا في الصغر، داخل كاميرا والده القديمة ومُوجِهين إياه نحو الإضاءة من أجل أن نرى هذه الصور السيئة التي التُقطت لنا ونحن نلعب على الشاطئ أو في الملاهي، لا يختلف في فكرته تقريبــًا عن الشريط الذي يضعه عامل السينما في ماكينة العرض، مع اختلاف الحجم.
مَن شاهد الفيلم الإيطالي "Nuovo Cinema Paradiso سينما باراديسو" سيتذكر مشهدًا مُهِمــًا، احترق فيه وجه صديقنا المحبوب "ألفريدو" الذي كرس حياته للوقوف على ماكينة العرض السينمائي ووضع الشريط داخلها. لماذا احترق وجه ألفريدو؟ لأن شريط العرض السينمائي في هذه المرحلة الزمنية وتحديدًا في مرحلة ما قبل عام 1951 كان قابلاً للاشتعال إذ كانت خامته عبارة عن مادة "نترات السليلوز". وحتى يصل المهتمون بصناعة الشريط السينمائي إلى خامة فيلمية غير قابلة للاحتراق، بُذل مجهود ضخم بدأ منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قبل ظهور أجهزة التصوير السينمائي ذاتها.
اﻷلوان التي يتفنن الآن السينمائيون في تحديدها على الشاشة والتدقيق في الفروق بينها، كانت خيالاً علميــًا بالنسبة لصناع السينما في فترة النشأة، فقد كان العاملون على تصنيع الشريط السينمائي "النيجاتيف" يتوخون الحذر في التعامل مع الألوان التي قد تفسد الشريط.
فبالرغم من كون النيجاتيف أبيض وأسود إلا أنه كان حساســًا تجاه بعض الألوان، فمثلاً كانت الممثلات تتجنبن استخدام أحمر الشفاة أمام الكاميرا. وعلى الرغم من ذلك، فقد نجح هذا الجيل الرائد في أن يقوم بصناعة سينما ملونة، وذلك من خلال تلوين الفيلم بفُرشات رقيقة وقد ظهرت نتيجة هذه الفكرة في فيلم عُرف باسم: "مملكة الجنيات Fairyland: A Kingdom of Fairies" للمخرج الفرنسي الرائد جورج ميليه الذي سنتحدث عنه لاحقــًا. (5)
في اليابان، السينما لم تكن صامتة، نعم، إذ صاحب الفيلم المعروض على الشاشة مُحاضَرة أو مُنادٍ يُوضح الحدث، وهنا يبرز ابتداع نظام عُرف باسم "البنشي Benshi"، وهي كلمة يابانية تعني التعليق المُصاحِب للفيلم. قبل بداية عرض أي فيلم ياباني، كان المتفرجون يحصلون على مقدمة فيها قدر كبير من التفاصيل فيما سمي بالــ "maesetsu" مما جعل السينما اليابانية الصامتة أكثر صمودًا في مواجهة السينما الناطقة التي كانت قد بدأت في الانتشار في العالم.
ظاهرة البنشي تطورت بشكل كبير في الفترة التي وقعت فيها الحرب بين روسيا واليابان في بدايات القرن العشرين، وأصبح للفيلم قيمة وطنية في طوكيو، إذ أبرزت السينما -والتي كان معظمها أفلام وثائقية أو نشرات سينمائية عن الحرب- بطولة الجندي الياباني، وكانت البنشي في القلب من الحدث إذ تساعد المواطنين على فهم ما يجري. (6)
الموسيقى، كان لها دورًا مهمًا للغاية في مرحلة صمت السينما، إذ كان السينمائيون يقومون بعزف موسيقى الفيلم على البيانو كما نشاهد في أفلام تشارلز تشابلن، أو استيحاء الموسيقى من الفولكلور المجتمعي، ومع تضخم الصناعة بعد ذلك عمد صانعو الأفلام إلى صناعة موسيقى أوركسترالية ومغنيين أوبراليين.
عرض الأفلام، أتذكر جيدًا قبل دخولي السينما لأول مرة، كنتُ أتساءل كيف يُعرض الفيلم على الشاشة، وكنت أشاهد في ليل الاثنين من كل أسبوع برنامج "تاكسي السهرة" الذي كان يعرض مقتطفات من أفلام سينمائية، وكانت الحلقة دائمًا ما تبدأ من نهاية القاعة وذلك الشكل المخروطي للضوء الذي تنعكس من خلاله الصورة على شاشة كبيرة نشاهد معها الفيلم. ولعل السينما منذ بدايتها اعتمدت على هذا المنطق الذي يستند في الأساس إلى مجموعة من المسائل الفيزيائية المؤسسة للضوء.
إذا تخيلنا الصعوبات التي لطالما تحدث عنها المخرجون حول تلف الأفلام ومحاولة صناعة نسخ جيدة للعرض، نستطيع إذًا تصور مدى صعوبة الأمر في مرحلة السينما الصامتة، فعدد الأفلام في مرحلة السينما الصامتة ليس مؤكدًا أو دقيقــًا، إذ يتراوح بين 20 و25 ألف فيلم متبقي، من بين حوالي 150 ألف فيلم تم إنتاجه(7)، مما يشير إلى تلف وضياع عدد ضخم جدًا من الأفلام المُنتجة خلال العقود الأولى لنشأة السينما.
اليوم، نذهب للسينما ونقف في الصفوف للحصول على تذكرة دخول القاعة، في حين كانت السينما في سنوات ميلادها الأولى تذهب للمشاهدين إذ كانت الأفلام تعرض في المهرجانات المتنقلة من بلد لأخر أو مقهى أو حديقة..إلخ (8).
كان للحرب العالمية الأولى أثر كبير على تشكيل خريطة السينما في العالم، وعلو أسهم الولايات المتحدة متمثلة في هوليوود، وهذا سيكون موضوع الحلقة القادمة.
المصادر:
(1).
(2).
(3). The film book, a complete guide to the world of film, Leonard Bergman, 2011
(4).
(5). Fairyland: A Kingdom of Fairies(1903) "Le royaume des fées" (original title)
(6). A Brief History of Benshi (Silent Film Narrators), Jeffrey Dym,
http://aboutjapan.japansociety.org/content.cfm/a_b...
(7). موسوعة تاريخ السينما في العالم "السينما الصامتة" 1996، مجموعة مؤلفين، إشراف: جيوفري نوويل سميث، ترجمة مجاهد عبد المنعم، إشراف ومراجعة هاشم النحاس، الطبعة الأولى من النسخة المترجمة 2010.
(8). السينما الأوروبية، إعداد إليزابيث عزرا، ترجمة محمد هاشم عبد السلام.