البلبل غنى وغنى على ورق الفلة.. سهران معاكوا الليلة للصبح ليس إلا
بهذه الأغنية المنتشرة بين أوساط البسطاء والمبسوطين، افتتح المخرج داوّد عبد السيد تحفته السينمائية المضادة للزمن "الكيت كات 1991".
يبدأ الفيلم بمشهد بديع في غرفة محدودة قديمة، حيث يفترش الجالسين الأرض ويتوسطهم فانوس مضاء ليلقي أشعته البيضاء على الوجوه الضاحكة، وأثناء الغناء المختلط برائحة الحشيش والبيرة تدور النارجيلة على الجميع باعثةً دخانها الكثيف. ويستمر الشيخ حسني في غنائه وضحكاته ومداعبته للعود.
"إلا قولي يا شيخ حسني إنت عميت إزاي؟".
هنا يأتي دور الرائع "راجح داوّد" صاحب موسيقى بيسكاليا، يصمت الجميع وتصدح الموسيقى، لا يشوبها شيء إلا صوت الشيخ حسني المملوء بالتجربة والخبرة والحزن والأمل كذلك. يحكي الشيخ الضرير حكاية فقدانه للبصر يبدأها ببؤس وينهيها بضحك ومزاح مع المعلم رمضان.
من هنا عرفنا بطل الفيلم، الشيخ حسني، قد يتبادر للذهن أنه شيخ كفيف وطاعن في السن، حيث البطل الكلاسيكي، الذي يبدو عليه البؤس، ويتسول تعاطف الجمهور، لكن في حقيقة اﻷمر نجد أنفسنا أمام بطل من نوع آخر، بطل كفيف رافض للاعتراف بتلك الحقيقة، نحن أمام كفيف يسوق الدراجات النارية، ويقود شيخ آخر ضرير في عرض النيل داخل قارب صغير، معرضًا نفسه وصديقه للغرق.
نحن أمام كفيف يشاهد السينما والأفلام ويفسرها حسبما يريد، لقد أراد المخرج أن يثبت أن العمى ليس عمى النظر بل عمى البصيرة أي القلب.
وإذا كان الفيلم بصدد نموذج مختلف للبطل، فالقصة بالتالي مختلفة، نحن لا نشاهد قصة عادية ترصد الصراع بين الخير والشر، ولسنا بصدد نهاية حزينة أو سعيدة، المخرج أراد أن يقدم فكرة ونجح في ذلك.
يعتبر الشيخ حسني هو محور منطقة "الكيت كات" بحي إمبابة، فهو يشتري الحشيش من "الهرم" بائع المخدرات، ويجالس المعلمين على المقهى.
صباح الخير يا عم مجاهد، إيه؟ إنت لسه برضه زعلان مني؟ يا عم مجاهد إنت ظالمني، ورحمة أبويا إنت ظالمني.
مشهد موت العم مجاهد يحكي الكثير والكثير عن حياة الشيخ حسني، الشاب، الذي تطرده زوجة أبيه من المنزل بعد وفاة والده، المشهد يعد أيقونة سينمائية مصرية، وما ساعد على الخروج بهذا الشكل الأسطوري، الموسيقى التأبينية للرائع "راجح داوّد".
الشيخ حسني يعدد مظالمه لعم مجاهد الميت تمامًا، فهو يشكي لمن لا يسمع ويحكي لمن لا يفقه. معاناة الشيخ الضرير تتجسد في هذا المشهد.
"بتكلمني عن إيه؟ عن الحشيش؟ الحشيش ده هو الذنب الوحيد اللي في حياتي بعد ما ماتت أم يوسف، مكانش عندي حتى بني آدم أكلمه، أنا بكلم الناس حوالين الجوزة، بفضفض، بضحك، وأغني في قعدة حلوة لغاية ما أموت".
هناك أيضًا معاناة يوسف، ابن الشيخ حسني، مع ابيه ومع البلد، يوسف يريد أن يهاجر للخارج، يذهب صباحًا لاصطياد السمك، ومساءً للغرزة لاصطياد السعادة التي يتجرعها مع زجاجات البيرة الباردة.
يوجد أيضًا سليمان الصائغ وزوجته الهاربة لبرودة مشاعره، يبدو سليمان مثال للزوج الصالح، لكنه ذو مشاعر باردة ما يدفع زوجته للهرب منه، يلجأ سليمان للشيخ حسني لاصطحابه لزيارة أم زوجته، لتحرجه من عدم زيارتها منذ مدة وبزيارتهما لها سويا هو والشيخ حسني، يكاد ينسى الشيخ حسني سبب زيارته الأساسي، ويتجاهل سليمان ويتغزل في أم زوجته، ويستغل الشيخ حسني سذاجة سليمان ويطلب منه أن يقود الدراجة النارية في الحارة، ليصنع مشهد أيقوني آخر. يقود الشيخ الضرير الموتوسيكل بشكل عشوائي، ما يثير الاضطراب في الحارة، وينتهي المشهد نهاية كوميدية جدًا بالاصطدام في قفص الطيور الخاص بمحل أحد المعلمين الطامعين في شراء دكانه، ما يدفع المعلم لاستغلال الفرصة ومحاولة إنهاء عملية البيع مع الشيخ حسني.
"عارف يا يوسف، أنا ساعات بقوم من النوم يا ابني نفسي مقبوض، حاسس إنى هاتخنق، ببقى عاوز حاجة واحدة بس. أسوق موتوسيكل. وأطير بيه".
وفي أحد أهم مشاهد الفيلم، مشهد عزاء العم مجاهد، ينسى صبي مكبر الصوت الميكرفون مفتوحًا، وينسى الحاضرين جميعًا مآتم عم مجاهد ويداعبون الشيخ حسني، ليروي لهم حكايات الحارة المنسية، يندمج الشيخ معهم ناسيًا مكبر الصوت الذي يصدح في جميع أركان الحارة.
يحكي الشيخ حسني حكاية ابنه يوسف الذي يحلم بالسفر وفشله في إقامة علاقة مع جارتهم فاطمة، والتي تكتشف عجزه الجنسىي. ويحكي عن "الهرم" الذي يخون صديقه المريض مع زوجته والذي باع له الحشيش مقابل الدكان. ويحكي عن سليمان الصائغ وهروب زوجته بسبب بروده، ويحكي عن حماة سليمان، المرأة اللعوب، ومواعدته لها.
- يابا إنت ليه مش عايز تصدق إنك أعمى؟ يابا إنت راجل أعمى!
-أنا أعمى يا غبي؟ دانا أشوف أحسن منك في النور وفي الضلمة كمان!
تتعالى ضحكات يوسف وأبيه الشيخ حسني وبهذا ينهي عبدالسيد ملحمته الإنسانية الرائعة، بعد إنقاذ يوسف لوالده، عقب سقوطه في النهر مرة جديدة.
موسيقى راجح داوّد التي لا تنسى كانت أحد أهم أعمدة الفيلم، وكأنها تتقمص دور الراوي، وتحكي لنا هموم الحي وأحزانه وشجونه.
كادرات الرائع "داوّد عبدالسيد" التي جعلتنا نعيش لأكثر من ساعتين في حي الكيت كات وحواريه الضيقة، التصوير هنا أستاذي جدًا يستحق أن يدرس في عالم التصوير السينمائي، مواضع الكاميرا كانت احترافية جدًا، تدفعك للاندماج سريعًا مع الفيلم، بل وتعيش بداخله.
الحميمية ميزة إضافية في الفيلم، فالتصوير يجعلك تشعر برائحة البيرة في الغرزة، والبول خارجها في الخلاء. التفاصيل الكثيرة في الفيلم تجعله غني جدًا وبعيد عن الملل بشكل رائع.
القصة مأخوذة عن رواية "مالك الحزين" للكاتب إبراهيم أصلان، الفيلم يختلف كثيرًا عن الرواية، فالرواية مجرد رصد لأبناء الحي، تفتقد التماسك وكأنها قصة عن أحد الأماكن، بينما يأتي التركيز في الفيلم على شخصية رئيسية، وهي شخصية الشيخ حسني، التي لم تأخذ حقها في الرواية. كما أن تماسك الفيلم وسيره على وتيرة واحدة متماسكة ومترابطة، لا تجعل مشهدا ما شاذ عن الفيلم.
وأخيرًا الأداء الخارق من الممثل اﻷسطوري محمود عبدالعزيز، الذي نجح في تقديم أداء، خلّد في أذهان الجميع الشخصية الأسطورية للشيخ حسني، الضرير الضاحك المازح دائمًا، الذي يهوى قيادة الدراجات النارية.
لم يترك النجم محمود عبدالعزيز الفرصة لتأمل أداء باقي الطاقم التمثيلي، من روعة أدائه، فهو كفيل بجعلك مسحورًا به طوال الساعتين وعشرة دقائق. ويعد هذ الفيلم واحد من أجمل أفلام السينما المصرية بل العربية على الإطلاق، وتم اختياره ضمن قائمة أفضل 100 فيلم عربي في التاريخ.