1-الجثة
يبدأ فيلم A Perfect Day على مشهد لجثة منتفخة في بئر، يحاول البعض سحبها عبر حبل مربوط بسيارة، من فرط ثقل الجثة تنسلخ ومعها يتفسّخ الحبل، لتسقط الجثة في هوة سحيقة، ولا تستطيع ربات البيوت المحجبات أن يعبّوا المياه في أوعيتهم. الأشخاص الذين حاولوا الإنقاذ تشير ملابسهم إلى عملهم تحت مظلة الأمم المتحدة، وتظهر على الشاشة كلمات تخبرك أنّك في مكان ما من البلقان لعام 1995، في الناحية الخاصة بأهالي البوسنة، الحرب مستعرة، الحطام وبقايا المنازل هي الغالبة، التحرّك في أرض وعرة.
ما أزمة هذه الجثة؟.. "إنّها الحرب" الجملة التي تتكرر في الفيلم، والتي تدعوك لئلا تندهش من وقوع أمر ما، فقد دفعت تلك الحرب بالعدو أن يقذف بها إلى البئر الأخير الصالح للشرب في المنطقة، بعد أن تم تلغيم البئرين الآخرين.
بينيسيو ديل تورو هو البطل المسؤول عن أمن الفريق، يصطحب زميلته ميلاني ثييري التي تعمل في مجال المياه والصرف الصحّي إلى ورشة عمل الأمم المتحدّة لحل أزمة الأهالي واللاجئين، قبل انتهاء فترة عملهم. قال الضابط مسؤول الأمم المتحدّة في الورشة إن الجثة لا تشكّل أهمية بالنسبة إليهم، ما يشغلهم "الألغام" وحال الآبار الأخرى الملّغمة، يريد الفيلم أن يلمّح إلى أن الأمم المتحدة لا تنظر بشكل صادق إلى معاناة الأهالي في الحروب، بقدر ما تعرب عن القلق وحسب. يخبرها الضابط التابع للأمم المتحدة بوضوح: "اتركي الأمر للجيش من أجل تحديد الأولويات خلال الحروب". هنا يبتسم بينيسيو لها لكي تمرر الأمر، لكنّها تباغت الضابط بالقول إن الجثة ملغمة، وعليهم التدخّل طبقاً للقانون. الإنسانية كانت الدافع الذي يحرّكهم.
رغم الجثة المثيرة للاشمئزاز التي يبدأ بها الفيلم، إلا أن الطبيعة الخاصة بالبوسنة ساحرة، الجبال الشاهقة، ندف الثلج الذي يظهر في الأفق، البقر الذي لا يعنيه الحرب ويظل يحرث الأرض، ويوجّه السيدات إلى الأماكن الصحيحة البعيدة عن الألغام. حال انفجار البقرة فإن الطريق وعرة، وعلى السيدة سلوك منحنى آخر. يظهر الفيلم بلا إعلان واضح دور هام للمرأة في البوسنة، تذهب بملابسها المحجبة طلبًا للمياه التي وصلت سعر الجالون فيها لست دولارات كاملة بسبب الجثة، أو بحثًا عن مرعى لحيوانات يمنحون اللبن والظفر.
2-الحبل
حين انقطع الحبل لثقل الجثة، لم يمتلكوا واحدًا آخر. فكروا في أن الأمم المتحدّة لن تلقي بالاً لبئر رغم زعمهم الخاطىء بوجود لغم. قرروا أن يجدوا حبلًا يخرجون به الجثة قبل وصول قوات حفظ السلام. تظهر في الأنحاء أولغا كوريلنكو التي تعمل في الأمم المتحدة وسوف تكتب التقرير الخاص بالفريق، وهي بالصدفة حبيبة بينيسيو القديمة.
في حوار قصير تخبره أن السعي خلف الحبل ومصاحبة الطفل البوسني نيكولا في رحلتهم مخالفًا للقواعد. هنا يرد بجملة موحية "سوف أخبر بطرس غالي عندما يجىء إلى هنا". في إشارة إلى الأمين العام للأمم المتحدة وقتذاك، وإلى أنّهم قابعين في مكاتبهم الوثيرة لا يدركون طبيعة الحدث. وفي الأجواء تيم روبنز، مساعد بينيسيو يلقي الجمل الضاحكة التي تحاول التقليل من حدة توتر البحث عن حبل بلا جدوى.
ساعة تقرأ في سير الحروب، الأوقات التي تظلم فيها الدول، لا تدرك حجم المعاناة الحقيقية، تنقل لك الروايات عبارات رنانة عن دماء متناثرة، وتعبّر لك الأفلام من خلال رصاص منهمر وملابس عسكرية. في فيلم “A Perfect Day’ يصحبك السيناريو والإخراج في يوم واحد فقط لتجسيد معاناة البوسنة عبر استحالة الحصول على حبل.
حاولوا الوصول إلى ذلك الحبل من خلال متجر رفض البيع وكاد يفتك بهم لأنّهم أجانب، وصلوا إلى مخزن حكومي يعلّق علم البوسنة في سارية بحبل، طلبوا منه الحبل لمدة ساعة واحدة فقط، لكي ينقذوا الأهالي من عذاب العطش ودفع الدولارات مقابل المياه. أخبرهم إنّ منحهم الحبل يعني سقوط العلم، وإعلان الاستسلام، وسوف يتم قتله بسبب ذلك: "إنها الحرب".
السيناريو مكتوب بحرفية بالغة، الإيقاع هادىء، لا يمنحك شعور الحرب القاسي، حيث تم تطعيمه بمواقف كوميدية تدفعك للضحك أحيانًا، لاسيما مع الموسيقى التصويرية الصاخبة التي رغم مشاهد الحرب الكابية التي تلمحها أمامك، يتعاظم داخلك أن عنوان الفيلم "يوم مثالي" يتحقق بالفعل عبر مؤثرات.
تمضي الدقائق في اليوم الذي لا تتأكد أنه مثالي تمامًا لاسيما حين يصادفون نقاط تفتيش لا تحترم كونهم من الأمم المتحدة، يلمحون أن نقطة التفتيش تحتحز نحو 20 عاملًا تهم بقتلهم، يخافون مصيرهم، يتخذون طرقًا وعرة خائفين من الألغام، منارتهم في الطريق السيدات وبقراتهم. نيكولا الصبي الذي حمله بينيسيو معه لكي يجلب له الكرة، أخبرهم أخيرًا أنّه باستطاعته أن يقودهم إلى مكان به حبل مناسب. ذهبوا إلى هناك، كان يقصد منزله الذي تدمّر بفعل الحرب. البيوت كلها تدمرّت بفعل الحرب. ثمّة كلب نجا من القصف في منزل نيكولا، وكان الحبل مربوطا حول عنقه. الكلب الذي لم تفلح معه المهدئات المخبأة في قطع "الهوت دوج" دفع بالقنوط إلى الفريق مرة أخرى. كلب نجا من الحرب سوف يفتك بكل من يقابله. نيكولا طلب أن يدخل إلى المرآب لكي يحصل على كرته، لعل الرحلة تكون ذات نفع بالنسبة إليه.
3-الكرة
كيف قابل الفريق الصبي نيكولا؟.. لمحوه يُضرب من آخرين لكي يحصلوا على كرة تخصّه. حين نزل أحدهم ليدافع عنه ويمنحه حقّه، أخرج فتى مسدس وهددهم بالقتل. حملوا نيكولا واعدين إياه أن يشتروا كرة جديدة، ولمّا كان شراء حبل مستحيلًا، كان التفكير في شراء كرة رفاهية. أخبرهم أن ثمة كرة تخصه تجاور السيارة في المرآب. دلف بينيسيو إلى المنزل خشية على الطفل من ألغام ربما تكون مزروعة في المنزل الذي هجره أصحابه فبان كئيبًا.
الفيلم الذي يمضي بسلاسة سوف يباغتك، الطفل كان قد قال إن أبويه سافرا إلى مدينة بعيدة عن نزاع الحرب، بينيسيو ظن أن أحد الأبوين صربي والآخر بوسني فهربا خوفًا من القتل وتركا الصبي نيكولا يرعاه جده. في طريق خروجهم من الجراج، وجدوا الحبل، لكن جثة الأبوين كانتا تتدليان منه. دخل تيم روبنز، قطع الحبل وأسقط الجثتين. ولم يخبرا الطفل بما رأوه. منحوه كرته وتناولها في حبور، وحملوا معهم الحبل الملطخ بدم متخثّر.
في طريق عودتهم باليوم الشاق، راغبين في استباق فريق حفظ السلام، يلمح الطفل جده، يهبط إليه، ينظر الجد بذعر إلى الكرة خوفًا أن يكون الصبي قد عرف الحقيقة ورأى جثة أبويه. الحرب قاسية، لكن الأطفال ليس من الضروري أن يحسوا بقسوتها، لا يدور في خلدهم سوى اللعب على الأطلال. طمئن بينيسيو الجد بجهل نيكولا بالحقيقة. حين وصلوا إلى مكان البئر، ربطوا الحبل القوي بالجثة، بدأوا في سحبها، لاح في الأفق أن مثالية اليوم سوف تتحقق أخيرًا، هنا يظهر قوات حفظ السلام، يصروا على قطع الحبل، يجزوه بالسكين كمن ينحر خروفًا، وتسقط الجثة التي لا تريد أن تخرج من مقبرة المياه.
بينما بينيسيو يهندم ملابسه، يستعد لكي يعود أدراجه، انتهت مدة المهمة، حاول التغيير قدر الاستطاعة لكن الظروف أبت، لمح الصبية يمسكون بكرة الطفل نيكولا. جن جنونه، حصاد الرحلة الوحيد اغتيل على أيدي أشقياء، ركض إليهم وخطف منهم الكرة، لكنهم صاحوا فيه بأن نيكولا باعهم الكرة بعشر دولارات. أصاب بينيسيو القنوط، نظر إلى الطفل الجالس على العشب، الجبال في الخلفية تبدو كأنها تراقب المشهد وتسجّل تاريخ منطقة البلقان الواقعة على الحدود مع صربيا ودول أخرى منكوبة بسبب الحرب. اعترف الطفل بأنه باع الكرة لكي يحصل على النقود، حيث جمع 40 دولارًا، وينقصه 10، سوف يمنحهم لأحد الأشخاص الذي وعده بأن يحمله إلى مدينة أبويه. يخرج بينيسيو من جيبه 100 دولار، يعطيها للصبي، بعد الحصول على وعد بأن يرافقه جده في هذه الرحلة.
A Perfect Day!
العثور على حبل، لعب طفل بكرته، انتزاع جثة من بئر، الحصول على ماء نظيف. تفاصيل قد تبدو تافهة، لكن في زمن الحرب والقتل والتدمير، يصير ذلك عسيرًا، يصل حد الاستحالة. أين الملاذ؟.. ربما ليس الساسة أو الأمم المتحدة أو الجيش، ربما هو الله، في مشهد الختام، ينهمر المطر، تندفع زخاته كمدفع رشاش يمسك به عسكري أهوج. يمنحك الفيلم نهاية سعيدة، الكل يضحك لانهمار المطر، الخير يعم طالما الماء موجود.
في الفيلم الذي يستمر لنحو 97 دقيقة، تصحبك الكاميرا في دقيقة أخيرة بجولة إلى العمال المحتجزين يركبون الأتوبيس في أمان يشخصون بأبصارهم إلى نقاط المطر العالقة بزجاج الأتوبيس، ثم حارس العلم ينفث دخان سيجارته محدقًا في الحبل الذي يرفع العلم في إباء، وتنتقل الكاميرا إلى الرجال في المدينة يتبادلون الضحكات، والكلب في منزل نيكولا الذي يستظل بحطام لكي يشرب الماء، وإلى السيدات يمسكون بشمسيات تقيهم زخات المطر، والأهم من ذلك كله: يمتلىء البئر بالمياه، تطفو الجثة، يقذفها الأهالي خارجه، يشربون.