الارشيف / سينما و تلفزيون / السينما كوم

Carol.. همسًا وليس صراخًا

السينما وسيط فني بالغ الحساسية لدرجة الهشاشة، قابل للجرح أو الخدش بأقل شيء لا يتفهم طبيعته ولا يقدر حساسيته، خاصة عندما يضع صانع الفيلم كامل ثقله على ما يتناوله الفيلم وما يقوله على حساب كيفية قوله وتقديمه بما يتناسب مع حساسية الوسيط التي يخدشها ويجرحها بشكل بالغ الصوت العالي والصراخ اللذان يصر عليهما عدد ليس بالهين من صناع الأفلام مما ينتج عنه أعمال ضعيفة من الناحية السينمائية وزاعقة على مستوى الموضوع.

من أكثر الأفلام التي ستجد بينها هذه الحالة من الصراخ هى الأفلام التي تتناول المثلية الجنسية أو النسوية وحقوق المرأة، لماذا؟ لأن الحماس الزائد بدافع من العاطفة والإيمان المطلق لقضية ما تدفع صانع الفيلم وراء الانسياق التام من أجل الدفاع عما يؤمن به، فيتغلب هنا شق الموضوع على حساب التناول الفني، وهو ما وجدناه مثلًا في الحالة الأولى في الفيلم الأمريكي Milk، وفي الحالة الثانية مع الفيلم التركي Mustang، بل وتمتد هذه الحالة أيضًا خارج السينما إلى الأدب في أعمال صنع الله إبراهيم ونوال السعداوي على سبيل المثال.

في فيلم Carol للمخرج تود هاينز، يحمل الفيلم في ثناياه موضوعي المثلية والنسوية في آن واحد من خلال علاقة حب مثلية تجمع بين امرأتين في أمريكا الخمسينات حين كانت المثلية لا تزال مُجرمة قانونًا وجالبة للنبذ إجتماعيًا خاصة في مجتمع محافظ مثل المجتمع الأمريكي وقتها، وفي نفس الوقت لم تكن المرأة الأمريكية قد نالت جميع حقوقها المستحقة حتى ذلك الوقت. فيلم كهذا يحمل هذين الموضوعين معًا قد يعد قنبلة موقوتة في يد صانع أفلام متوسط الموهبة حينما يحوله إلى فاصل سهل النسيان من الخطابة والطنطنة والصراخ حول الحقوق المستلبة، ولكن في يد تود هاينز، يتحول العمل إلى ذهب.

كنت أدرك أن تود هاينز - بناء على أعماله السابقة - مخرج بالغ الذكاء وقادر على الابتعاد عن كل الفخاخ المنصوبة أمامه، ففي Far From Heaven لم يكن هاينز مشغولًا بمناقشة موضوعي المثلية والعنصرية ضد السود بشكل جاف بقدر ما انشغل بتقديم مثلث حب ذو طعم كلاسيكي ينطلق من تلك المواضيع المحرم تناولها في تلك الحقبة وليس انتهاء إليها، وفي مسلسله القصير Mildred Pierce لم يقدم بطلته كأمثولة عن معاناة المرأة في المجتمع الأمريكي بقدر ما ينشد تقديم قصة كفاح امرأة كانت كل ما تنشده هو التقدير سواء اجتماعيًا أو طبقيًا أو حتى عائليًا.

ومرة أخرى في هذه الحكاية المستندة إلى تجربة شخصية خطتها الكاتبة الأمريكية باتريشيا هايسميث في رواية لم تحمل اسمها لعقود بسبب طبيعة المجتمع الرافض للمثلية وقتئذ، كان ما يميز هاينز ومعه كاتبة السيناريو فيليس ناجي أنهما لا يكتبان "مانفيستو" بالمطالب والحقوق، وإنما يصنعان قصة من لحم ودم عليها أن تتنفس بالمشاعر على الشاشة، فلذا عليهما أن يراكموا عشرات اللحظات والذكريات التي تشكل حاصل جمع العلاقة المتشكلة على الشاشة.

الرائع أن تود هاينز دومًا لديه مخزون هائل من الحلول الدرامية والبصرية اللائقة واﻷنيقة لعرض هكذا قصة، فهو يقلل لأقصى درجة من الاعتماد على الحوار، فهو قادر أكثر على تقديم وتطوير المشاعر واختلاجات القلب بين بطلتيه عن طريق لغة الجسد والتواصل بين الأعين، هاتان الأداتان بالذات هما اللتان ترويان لنا كل شيء عن العلاقة، وفي أي اتجاه تتحرك، وإلى أي شكل ستتحول، ويعمل بصبر وبدأب لمدة ساعة وربع كاملة قبل انخراطهما للمرة الأولى في فعل جنسي حميمي على مراكمة كل هذه اللحظات بينهما بتفاصيلها الصغيرة (لمسة يد تتراوح بين العفوية والقصدية، نظرة ذات معنى، كلمة صغيرة تحتمل أكثر من معنى).

يعرف تود هاينز دومًا كيف يقدم شخصياته للمشاهدين في كل مرة، لغة الجسد هنا تجعلنا متيقنين تمامًا من معدن شخصيتي كارول وتيريز بدون أن يتفوها بكلمة، كارول بإطلالتها الأيقونية الواثقة تعرف ما تقول وكيف تقوله ولمن تقوله بكل إعزاز وثقة، بشخصيتها الكاريزمية وقوة شخصيتها ونظراتها القوية الثاقبة التي تصيب هدفها، وعلى الجانب الثاني هناك تيريز الفتاة الغرة ذات الأعين الطفولية الواسعة التي تملك الكثير من الفضول لكي تستكشف وتستقريء ما لا تعرفه. هاينز ينجح بجدارة في توصيل كل ذلك وأكثر مبكرًا بدون إملاء من خلال موقف عادي دائم الحدوث، وهو تعامل بين موظفة وزبونة، لكنه ينجح أن يقول لنا الكثير عما تكونان.

إن لحظة "الحب من أول نظرة" التي يصنعها هاينز في هذا المشهد هي لحظة فائقة السمو بكل المقاييس، إنها شيء أشبه بلحظة لقاء باري إيجن ولينا ليونارد للمرة الأولى في فيلم Punch-Drunk Love حتى مع اختلاف الطبيعة الفنية والبصرية للفليمين، في كلا اللحظتين أنت فقط لن تتجاوز السؤال حول سبب وقوع كلاهما في الحب، بل ستكتشف حتى في داخلك سخافة السؤال وعدم أهميته حتى لو كان يلح على الذهن، ويوصلك لحقيقة أن الأمر قد حدث لأن يحدث فحسب، إنه شيء لا يفسر ولا يؤول، بل يحدث فقط.

من مميزات أعمال تود هاينز أنه لا يتعامل مع شخصياته بمنطق التقسيم المتعسف إلى معسكرين أو فسطاطين، وهو ما نلمسه في تعامله مع كافة الشخصيات الذكورية في هذا الفيلم، هاينز لا يلقي برجاله في معسكر الشر مثلما تفعل الغالبية العظمى من الأفلام ذات البطولة النسائية أو ذات المواضيع النسوية الحادة وأحادية البعد، ونفس الحال في Carol، حتى بالقياس بظروف حقبة الخمسينات والعقليات المحافظة التي تتمتع بها شخصيتي ريتشارد وزوج كارول.

ومثلما فعل في Far From Heaven حينما قام بنقل روح الخمسينات مثلما كانت تتجلى في سينماها وليس مجرد استحضار لقصة من الخمسينات، يكرر هاينز الكرة هنا مرة أخرى خاصة مع اختياره الفني الذي أصاب الهدف بتصويره الفيلم بكاميرات 16 مللي ليمنح فيلمه نفس ملمس الصورة لأفلام الأربعينات والخمسينات، ليثبت تود هاينز من جديد أنه أفضل من يضعك في تلك الأجواء الزمنية، وتشعر معه بحبه الجارف لتلك الحقبات الكلاسيكية، ليضع فارقًا بينًا بين صنع فيلم عن الخمسينات وبين صنع فيلم خمسيني، وهذا هو الفارق.

ولكي يدلل أكثر على تقديره لتلك الحقب الأولى وسينماها، يوجه المخرج تحية سينمائية لرائعة المخرج البريطاني دافيد لين Brief Encounter محققًا قدر كبير من التماس الشغوف بين عمله هنا وبين الفيلم الآخر: بدايته بإحدى تتابعات النهاية، أيقونية تواجد القطار دراميًا، ارتكاز الفيلم على قصة حب محرم من وجهة نظر المجتمع، استخداماته لثنائية الضوء والظل لتتماشي خطوة بخطوة مع الحكاية ومع تطور قصة الحب بين تيريز وكارول.

أعتقد أني شعرت بالكثير من الحزن حينما خسر فيلم Carol ترشيحان مستحقان لجائزتي أوسكار أفضل فيلم وأفضل مخرج، خاصة مع تواجد أفلام أقل منه على المستوى الفني قد وصلت للترشيحات النهائية بسبب الصخب الإعلامي الذي أحاطها، لكن من قال أن هذا يمكن أن يكون معيارًا للحكم على الأفلام بقدر ما يكون الحكم الأول والأخير للمعدن الفني الأصيل، وهذا قطعًا من أفضل أفلام 2015 حتى لو كان هامسًا وليس صارخًا مثل سائر الأفلام الزاعقة من حوله، ففي همسه يسكن الجمال، وبين جنباته يرتاح الفؤاد.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى