"I'll go back to black، And I go back to black.. سأعود إلى الظلام، وأعود إلى الظلام".
كانت هذه كلمات واحدة من أشهر أغنيات المطربة الإنجليزية "إيمي واينهاوس"، والتي كتبتها بيديها كعادة أغانيها، لكن في أغنيتها تلك - وبطريقٍة ما - خطَت بين حروفها، أسلوب حياتها في مراحلها الأخيرة وإلى أن غابت عن عالمنا، فأصرّت دومًا أن تعود إلى الظلام، وأخذت تعاوده مرارًا، إلى أن قبعت به في النهاية دون رجعة، لتحرم ملايين المٌحبين من موهبتها الفذّة وشخصيتها الآسرة.
فيلم "Amy"، عن تلك الفتاة البسيطة صاحبة الموهبة الفذًة والتي كان بمقدورها اقتلاع الحيرة من أعتى عقول الموهوبين وروّاد المجال الغنائي، صاحبة الكاريزما العاتية التي لن يصمد أمامها مخلوق، فضحكتها وحدها قادرة بأن تُشبٍع قلبك حُبًا الحياة.
"إيمي" التي رفضت أن تقوم بما لا تؤمن به، وكان مفهوم النجاح لديها أن تملك القدرة على فعل ما تحب، أن تكتب ما تؤمن به لتغنيه، أن تستقي كلماتها من واقع تجاربها الشخصية - وكم أجادت هذا - لتكتب أغاني أذهلت العالم بأكمله وجعلت الملايين يحفظونها عن ظهر قلب ويرددونها دون عناء، "إيمي" الحالة المُلهمة لأي فرد يَطّلِع على تجربتها، أو يقترب من رحلتها ويعارك أسلوبها مع الحياة ويشهد منهجها في تعاملها مع موهبتها، هذه الفتاة البسيطة المتواضعة التي لا تلقِ البال لأمر، والتي فاضت بكلمات وأغنيات اقتحمت قلوب الجميع، الفنانة التي استحق نجمها أن يسطع ويلتهم السماء، لكنه انذوى في النهاية ليتركنا نبحث عنه دون عثور، لنتذكر في بحثنا كم كانت هذه الفتاة رائعة وكم كانت تجربتها مُلهمة ومخيفة بذات الوقت.
عند مشاهدتك الفيلم، وسواء كنت على معرفة سابقة بـ"إيمي واينهاوس" أو لا، فإن روحك وقلبك لن يغالطوا روعة هذه الفتاة وبساطتها وموهبتها غير المسبوقة، ستتابعها على الشاشة وتأسرك عفويتها، ستندهش لكتلة التلقائية التي تتحرك أمامك وتبث بك النشوة لمجرد رؤيتها فقط ومراقبة كيفية تعاملها مع كل شيء، ستعشق كل تصرف يصدر عنها وتشعر بأنه صدر دون حسبان وبلا تخطيط، ستحبها بحق قبل حتى أن تُعانق موهبتها على الشاشة، وستهيم بها حبًا حين تصطدم بموهبتها تلك، ستفاجئك بكلماتها التي تكتب، وقد استقتها من كل تجربة مرّت بها في حياتها، فعلى سبيل المثال، حين تسمع لها "Back To Black"، ستمتلئ بها إعجابًا وترددها دون قصد، لكن حين تشهد في الفيلم كيف كُتبت الأغنية وتجربتها التي قبعت ورائها - حين تعرضت علاقتها بمحبوبها للتوتر البالغ - ستصعقك قدرة هذه الفتاة على التعبير، وإبداعها في نسج حياتها بين حروف كلماتها، فلن تتوقف الأغنية عند حبك وترديدك فقط، بل ستجد لها مكانًا في روحك وتلتحم به التحامًا، ولن تقنع "إيمي" بإذهالك عند هذا الحد، فتجدها في واحدة من أنجح أغنياتها "Rehab"، تصعقك دهشة حين تدرك أنها كتبت الأغنية بعد تورطها في إدمان الكحوليات والمخدرات، فينصحها المقربون بأن تدخل المصحة لإعادة تأهيلها، فتخبرهم "They tried to make me go to rehab but I said, 'No, no, no.. لقد حاولوا أن يجعلوني اذهب لمصحة/rehab، لكني قلت: لا، لا، لا"، ستندهش كيف أحالت تجربة عصيبة مثل تلك إلى أغنية مفعمة بالإيقاع والرتم والطرافة، في كل أغنية ستقتلع منك أعلى درجات الإعجاب والإلتحام الروحي بما تنقله فيها عن تجاربها، فمثلما أثبت الفن دومًا أن صدقه هو أقوى عناصره تأثيرًا ووصولًا للناس، مثلما كانت "إيمي" نموذجًا يُحتذى به في ذلك.
ستجد أن "إيمي" مرّت بالكثير، ومجدها هذا لم يكُن مُهَيئًا له أي مقومات تساعد على بلوغه، وظروفها كانت تعاند مُضيها في أي طُرقة للنجاح، فهي تتعرض لإهمال والدها التام في ذروة مراهقتها، فيغيب تمامًا عن صورتها، وتبحث عنه دون جدوى، وحين يظهر في خارطتها يكون لجمع النقود منتهزًا ما حققته هي من نجاح، تتخبط في علاقاتها العاطفية قمة تخبطها، وتقع في اختيارات لا تعرف الصواب لما افتقدته من حنان ورجولة بحياتها، يغيب عن حياتها رموز اتخذتها قدوة بعالمنا، مثل جدتها التي تعشق "سينثيا واينهاوس".
أمور عديدة كان بإمكانها أن تقصم ظهر الفتاة مبكرًا وأن تخفي عنها أي سبيل للنور، لكنها صنعت نجاحها من هناك، فكان مبدأها دومًا وعلى حد قولها "قررت أن أصنع شيئًا جيدًا من شيء سيء"، فصاغت معادلتها الرائعة بترجمة تجاربها والتعبير عنها في أغاني تخترق قلب كل من يصادفها، وبينما كانت قادرة على كتابة مثل هذه الكلمات، امتلكت أيضًا أسلوبًا فريدًا في الغناء، لا يقاربُه آخر، لا يمكن أن تقع عيناك عليها وهي تغني، بذلك الأداء الساحر الفريد، الصوت المجلجل بأعماقك، والكاريزما الخاطفة دون أن تهيم بها عشقًا وتؤمن بأنها موهبة افتقدت لمثيل.
مع كل هذه الأمور، ستراقب الفيلم وأنت مشدوه، كيف تحوِّل مآسيها إلى تجارب وأغاني زاعقة النجاح، كيف تتعامل بتلك البساطة مع الجميع، كيف تنتهج ما تؤمن به فقط ولا خانة لأمر لا يقنع به إيمانها، ثم يدهشك أيضًا انخراط شخصية بهذه المقومات في إدمان المخدرات والكحول، وكيف كان إصرارها على الركض نحو الهاوية، ستشاهد وتؤلمك الأمور، ستبحث عن "إيمي" ولن تجدها، تلك الضحكة المنيرة على وجهها ذبُلَت، تلك الأعين المفعمة بالحياة والموهبة، أمست خاوية لا تملك سوى الغياب، هذا الصوت الذي كان يدغدغ أعماقك بنبرته المٌغلفّة بالإحساس، أصبح ضائعًا مُحشرجًا بأنفاس التبغ وبحيرات الكحولٍ، ستتمنى أن تقفز أمام الشاشة وتصرخ بها، ما بالك يا فتاة؟ أنتِ بقمةِ مجدك، ما هذا الذي تفعليه؟! لكنّ اليأس سيتملكك، حين تشهد كل المحيطين بها زاغ منهم الأمل، وسُيعتَصر قلبك اعتصارًا، حين تخبرنا صديقتها "جولي"، بأنها حين تسلمت جائزة "الجرامي" وارتفعت أيادي الملايين تهلل لها وتصفق منتشية بنجاح الفنانة التي تحب، وبينما هي في أقصى مراحل نجاحها، تلك اللحظة التي لا تتكرر، تخبر صديقتها: "جولي، هذا يبدو مملًا للغاية بدون مخدرات"، ستحزن، ويلتهم الأسى قلبك، أن تلمح نجم فتاة بهذه الموهبة، يأفل ولا يقوى أحدهم على منعه الأفول.
الفيلم رائع بحق، وأروع ما به أنه كتم أنفاسه منذ بدايته وحتى نهايته، فلا تشعر أبدًا بأن هناك فيلمًا يُدار على الشاشة، بل أنت في محيط "إيمي" تمامًا، تشعر بك أحد المُقربين لها، وكأنها صديقتك، وكأنك تألفها وهي تألفك، وأعتقد أن كاريزما "إيمي" الفريدة ساعدت صُناع العمل كثيرًا في هذا الأمر، ستشعر بأنك تعيش تجربتها في أدق تفاصيلها، ليس هناك فيلم، بل تجربة مُلهمة تخترقك في جٌلّ مراحلها، فلو أنت من المتمتعين بموهبة، ستصل إلى أعلى درجات الإلهام مع "إيمي"، وستُحرِّك بك كل مقوماتك، وستشعر بواقعية كاسحة معها، حتى مرحلة الهلع من نجاح أمر تفعله وشعورك بالعجز عن الإتيان بمثيله، ستعركه معها، وإن لم تكن من أصحاب الموهبة، ستُلهَم بتعاملها مع الحياة وقدرتها على إحالة كل قبيح إلى جميل وتجاوزه بالإبداع، ستنغمس في تجربتها وتنسى تمامًا بأنك تُشاهد فيلمًا، وبرأيي هذه أقصى درجات الإبداع لفيلم.
المخرج البريطاني "آسيف كاباديا" كان رائعًا في صياغة فيلمه عن "إيمي" وبـ"إيمي"، فتخرج أنت كمن عرك حياتها معها، وليس مجرد ُمشاهد لفيلم يتحدث عنها، لذا نال الفيلم أوسكار الأفلام الوثائقية عامنا الماضي بجدارة واستحقاق تام.
وأجمل ما فعله "آسيف كاباديا" في فيلمه، أنه لم يبارح شاشته بحضور "إيمي"، هي موجودة في كل اللحظات، بقمة نجاحها وذروة تدهورها، في تألق موهبتها أو شكّها في القدرة على الإتيان بجديد، وهي ملئية بالحيوية أو يفعمها الضياع، لكنها دومًا موجودة، لذا وقُرب نهاية الفيلم، حين تتوفى "إيمي" وتغيب عن الشاشة لدقيقتين، ينفجع قلبك بحق، وتفتقد حضورها بشدة، تبحث عنها في ربوع الشاشة وتأبى تصديق أنها غابت، ليُداهمك "آسيف" بلقطاتها الآسرة وصورها الخلابة، فينغز قلبك بضحكتها ويلكز روحك بتلقائيتها منقطعة النظير، ويشب الحريق في ربوعك بأن كل هذا قد غاب، عاد للظلام وقبّع، لن نختبره مجددًا، ستبحث عن "إيمي" بشدة وستجد الدموع مكانها في عينيك، ليحترق رأسك بأن صاحبة هذه الكاريزمة والموهبة غابت ولن تعود، أن بالغة هذا المجد رفضت إكماله، وأبَّت أن تُمهِل قلبها حق النبض، وأخذت تُغرقه أكثر وأكثر بالكحول بمناسبة ودون مناسبة، ستتمنى لو تشرق ضحكتها مرة أخرى، لكنك تدرك في يأس أن شمسها غابت ونجمها أفل.
فيلمنا تجربة مٌلهمة ومخيفة، ترسم خاطرًا بأن تناقضات الحياة قادرة دومًا على إذهالنا واقتلاع دهشتنا، مؤكدة بأن كل أمر قد يطوله التغيير، وأي جميل قد لا يدوم، وأن المجد مها بلغت عزته، قد ينذوي لأتفه الأشياء، ستتذكر "إيمي" وبساطتها مع الحياة، ستتذكرها وهي متربعة على عرش موهبتها وإيمانها بما تفعل، ثم ينفطر قلبك لما آلت إليه أحوالها في النهاية، لتؤرقّك فكرة أن المخدرات هي من اختطفها، وأن الكحول هو الذي أغرقها، ستحزن على مجدها وتتصور كيف تكون قوته لو لم تفارق "إيمي" عالمنا بعد، تُرى بهذا النجاح الذي حققته ولا زالت ابنة السبعة وعشرين ربيعًا، فماذا عن نجاحها لو كانت معنا الآن، لكن في النهاية يبقى الأسى والحزن على هذا المجد الذي خبى، المجد الذي أبىَ الارتماء في أحضان البريق، واستسلم ليتجرّعه الكحول.