الارشيف / سينما و تلفزيون / السينما كوم

"Eastern Plays".. فقدتُ ذاتي!

"Inject me with love, Inject me with love.. إحقني بالحُب، إحقني بالحُب".

كانت هذه هي كلمات الأغنية التي صدحت بها الفتاة في الملهى الليلي الذي لجأ له "كريستوف" قُرب خاتمة الفيلم، ليتماهى تمامًا مع غنائها وصخب الإيقاع المُعانق لصخب آخر يصول ويجول في روحه، تتعالى الكلمات لتترجم حال كريستوف الذي ضلّ ذاته وفقد بوصلة الهداية لها، لتنكأ جرحه في غربته عن نفسه، وتُذكرّه بطعم الحُب الذي أوشك أن يُذيب روحه ثم غاب وتبخّر بعيدًا، تاركًا كريستوف مع قدّرُه الذي لم يمهله فرصة لاقتناصها.. يشقُ صوت الفتاة عنان روحه، يدبُ الإيقاع، تتعالى النغمات فيرتج لها، وتثور الفوضى في أعماقه.. "Inject me with love, Inject me with love".

يُقحمنا فيلم "Eastern Plays"، الذي عُرض مؤخرًا ضمن فعاليات مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة (دي-كاف)، في الظروف التي شكلّت حالة كريستوف النفسية منذ أولى لحظات لقاءنا به على الشاشة، هو فنان يمارس الرسم ويخُط لوحات فريدة بطابعها الخاص، يسعى لإيجاد أي فرصة للتربح من خلالها بدلًا من امتهان حِرف يمقتها، فيعرض لوحاته على صديق له عائد لتوّهِ من هولندا ويعمل بصناعة الأثاث، تحوز اللوحات إعجابه، ويشرعان في التفكير بالعمل معًا، نلاحظ أن كريستوف يرغب بفعل هذا في هولندا والخروج من بلدته، بينما يحاول صديقه إقناعه أنه لا جدوى من ذلك، والأفضل أن يؤسسا عملهما ببلدتهما بلغاريا، كريستوف لا يظفر منه اقتناع مراودًا إياه البراح الذي يأمله بعيدًا عن بلدته.

يجلس مع صديقه في مقهى، لتلحق بهما "نيكي" - صديقة كريستوف الحميمة - ونلاحظ كيف يُعاملها بلامبالاة بلغت المُنتهى، لا يُعير ما تقوله اهتمامًا ولا يترك لها مساحة وجود، كل ما يبثه تجاهها سخرية غلفها عدم اكتراث، ونُدرك رويدًا أن كريستوف أمسى خاويًا، لا ينتظر شيء، يفعمه اليأس وتُثقله قلة الحيلة، لا يدرك ماذا يريد، هو يعيش وكفى، لم يعد يملك طاقة البحث عن ذاته، فلتتقاذفه الأيام كيفما شاءت.

على الجانب الآخر شقيقه "جورجيوس"، مراهق توترت علاقته بوالده، فلا ينعما بأي صفاء سويًا، ليلتم شمله بصديق سوء يوّرطه مع مجموعة من صبيان الشوارع محترفي الأعمال الإجرامية، من مخدرات لسرقات وحتى الاعتداءات، بل إنهم يُستَغلّوا كأدوات من قِبَل سياسيين أصحاب نفوذ لتنفيذ أعمال إرهابية على صفوة المغتربين ببلغاريا، فينخرط معهم جورجيوس وتكون أولى مهماته هي الاعتداء على أسرة مغتربة من الأتراك.

ذات ليلة، يندلع شجار من الشجارات المعتادة بين كريستوف وصديقته نيكي في المقهي، لتُلقي الفتاة بنقود حساب المقهى في وجهه وتنطلق مغادرة، فيواصل هو تجرعه الخمر بلا مبالاة، لتدخل أسرة الأتراك المغتربين - المتألفة من رجل وامرأة مع ابنتهما الشابة - إلى المقهى ويجلسون في منضدة مقابلة له، بينما يغلب كريستوف النوم من ثِقل الخمر على رأسه، تهم الأسرة بالرحيل من المقهى لتلاحظ الفتاة حالته المُذرية ضاحكة في هدوء، ثم يغادرون غير عالمين بعُصبة الصبية المُتأهبة للاعتداء عليهم.

تقطع الأسرة الصغيرة أحد شوارع البلدة الخالية فيداهمهم الصِبية ومعهم جورجيوس، ويكون هذا الاعتداء بمثابة خطوة إماتة قلب الفتى وتطويعه أن يكون عنيفًا، فيُنصِبّه الفتية لأن يعتدي بنفسه على رب الأسرة، وبالفعل يفعلها جورجيوس وينهال ضربًا على الرجل، يتهاوى الرجل على الأسفلت البارد وقد مزّق صراخ زوجته وابنته سكون الليل، يطلب أحد الفتية من جورجيوس أن يراقب الجانب الآخر من الطريق تأمينًا للعملية، يذهب جورجيوس بعيدًا لمراقبة الأمور، وهنا يظهر كريستوف على الطريق وقد أغشاه السُكر، يتساءل في فزع عمًا يحدث، فينهال عليه الفتية بالضرب هو الآخر، ينهون الفتية مهمتهم ويتأهبون للرحيل، بينما يعود جورجيوس من الجانب الآخر لاحقًا بهم، فتقع عيناه على شقيقه الأكبر المرتكن على سيارة مُضرجًا بدمائه، تتلاقى أعينهما لحظات يهم بعدها جورجيوس بالرحيل لاحقًا بالفِتية، بينما يطلب كريستوف الإسعاف لإنقاذ الرجل.

ربما هذا المشهد هو نقطة تحوّل الفيلم وذروته، لنشهد بعد وقوعه تبدُّل الأحوال، فنحن – لأول مرة – نُدرك أن كريستوف وجورجيوس شقيقان، ولأول مرة نرى كريستوف يكترث ويهتم، نتلمس فيه الحياة وبعضًا من بقايا الروح، فنجده ينصح أخيه بأن يبتعد عن حفنة الأوغاد التي يُصادقها ويعمل معها، يشرح له كيف أن الأمور ستتفاقم دون لجام يحكمها، يفسر له أن هؤلاء الصبية دُمى في أيدي سياسيين فاسدين يحركوها كما يشاءون ويعيثون بها خرابًا وفقًا لمخططاتهم العفنة، ينصحه بأن يستفيق ويبتعد بينما الابتعاد لا زال في مقدرته.

نراقب كريستوف يهتم أكثر وأكثر، فيذهب لزيارة الأسرة التركية في المستشفى والاطمئنان عليهم، ثم نلمح شرارة الحب التي تُنير بدهاليز قلبه حين يتعامل مع (ايزيل) – الابنة الشابة من الأسرة التركية – ونراقبه كيف يتأثر بتفاصيلها وكيف يتأجج شغفه وفضوله العاطفي. تمثال الشمع الجاثم عليه في كل تعامل يخص صديقته نيكي، ولّىَ بعيدًا واندثر، شرع كريستوف يتلمس ذاته التائهة مع تلك الساحرة ايزيل.

تستلطف ايزيل الفتى ويغمرها الارتياح تجاهه، لكن والداها يحذّرانها بألا تأمن لهؤلاء الأغراب، لكنها لا تُكذِّب إحساسها فتطلب من كريستوف أن يلتقيا ويقضيان أمسيتهما سويًا، لتسبر ايزيل أغوار كريستوف خلال هذا اللقاء منُبِّشة عن ذاته معه، ففي حديثها تخبره بإحساس غريب يراودها وتبحث له عن تفسير، وتصف شعورها في جمل حوارية ربما هي الأجمل بنص الفيلم.. ـ تقول ايزيل: "هناك ذلك الشعور العجيب، أن تشعر بأن هناك شيء ليس على ما يرام، تشعر وكأن العالم يهتز وينهار، ألا يراودك ذلك الشعور؟! كثيرون يشعرون به، ويدركون أن أرواحهم مريضة، مُرهقين من الداخل، يعتقدون بأن لا شيء سيحدث، لا جديد في الأمور، كل شيء يخرج تمامًا عن السيطرة، ألا تشعر بهذا الأمر؟ أناس مريضة من الداخل".
= فيجيبها كريستوف مُصدِقًا على حديثها: "ولا أحد هناك ليسمعنا".
_"أنت فقط لا تراهم، بإمكانهم مُعالجتنا، في مقدورهم أن يلمسوا ذاتك ويمنحوك شيئًا، يستطيعون مساعدتك دون درايتك حتى بالأمر".

يُكملان أمسيتهما لتواصل ايزيل حديثها ويهديها كريستوف بنهاية الليلة هدية، عبارة عن كرة خضراء لا أكثر! تسأله مستنكرة عنها، فيُجيبها باسمًا بأنها كرة لتدحرجها فقط لا غير، وكأنه أراد شيئًا منه أن يعلق بها فيكون حلقة وصل بينه وبين جمال روحها.

يشعر والدا ايزيل بالخطر من تصرفات الفتاة، فيغادرون المستشفى قبل موعدهما المُحدد بيوم مُجهزيّن على موعد لقاءها الثاني بكريستوف، ترحل الفتاة معهما وقد اعتراها الأسى، بينما ينفطر قلب كريستوف هائمًا على وجهه من جديد، شعلة روحه خَبّت في مهدِها، ذاته التي بدأ يُلامسها، فرَّت بعيدًا لتتركه ضريرًا يتحسس دربه في وضَّح النهار! شعور مؤلم بغيض بالغربة يلتهم روحه من دونِ رحمة.

لنجده يتجه إلى الطبيب النفسي الخاص بالتأمينات، محاولًا أن يشكو لمرة بصوٍت مسموع، وفي واحد من أجمل مشاهد الفيلم، يجهش كريستوف بالبكاء واصفًا شعوره للطبيب: "أنا متوتر، عصبي للغاية، أشعر بهذا.. أريد، أريد أن ألملم بقاياي، أن استجمع شتات نفسي، لكني لا أستطيع، أريد أن أشعّ نورًا وإيجابية، أن أحب البشر جميعًا، أن أعانقهم بقوة، لكن هذا لا يحدث، هذا لا ينجح، سُحقًا لي"، يُكرر كلماته للطبيب وقد اغتال البكاء وضوحها، يتهدج صوته وقد أنهكه الوهن. بينما ايزيل تدحرج الكرة في هدوء مّتذكرة اللحظات الساحرة التي اغتنموها سويًا.

جورجيوس أنهى صلته بالصبية الأشرار وصادق فتاة جديدة ليبحثان سويًا عن الحب، ثم يتوجه إلى شقيقه ليُعرفه بها ويطلب منه أن يُعلمه الرسم، وينتهي الفيلم بكريستوف الذي يقطع سبل المدينة في وضح النهار، مُتطلعًا لما هو آت.

الفيلم بسيط وجماله يكمن في بعده التام عن التكلف، يتناول حلقة من التأثيرات الإنسانية غير المتوقعة من خلال علاقات تتشابك بغرابة في شكٍل سلس جميل، الشخصيات مرسومة بعناية ولكل منها كيانه الذي لم يتم إهماله أو تهميشه على حساب آخر، كريستوف اليائس غير المكترث وقد أثقله ضياع ذاته وغربته عنها، جورجيوس المراهق بتقلبات مراحل مراهقته، ايزيل المُحبة والمتطلعة لكشف كل ما هو جميل، حتى نيكي كان لها حضورها المحبوب، وكانت لمسة ذكية باعثة على الطرافة في النص، لا أحد سيشاهد الفيلم دون أن يحب هذه الفتاة المجنونة، التي تتوجه مرارًا للشاب الذي تحبه، باكية مولولة بأنها تفتقده، فيقابلها كل مرة ببرود أكثر مما سبقه، وهي لا ترتجع وتواصل محاولاتها بذات الطريقة المضحكة، ستحبها وتحب شخصيات الفيلم وتشعر بهم جميعًا.

النص انسيابي، شاعري وإنساني للغاية، حواره يُفتش في دواخلنا بخفة ورشاقة، يُلقي بالحكمة دون ثوب النُصح الذي تنفره النفوس، يصوغ العلاقات بين شخصياته بمنطقية ودون مراوغات، يلعب على أوتار عزفنا عليها جميعًا بيننا وبين ذواتنا، "كامن كاليف" أحكم نصه وأخرجه بشكل جيد للغاية.

حتى الأداءات التمثيلية مقنعة للغاية، "كريستو كريستوف" أدائه جميل جدًا ومقنع في بساطته، وجدير بالذكر أن الفيلم تم إهدائه له في ذكراه بعد وفاته عام 2008، "ساديت أكسوي" في دور ايزيل كانت بديعة جدًا، طلتها آسرة وملائمة تمامًا للشخصية بقناعاتها، "أوفانيز توروسيان" في دور جورجيوس، و"نيكولينا يانشيفا" في دور نيكي كانا مُقنعان تمامًا هما الآخريّن، وتبقى الإشادة بالرائعة "آندرونيا بوبوفا" مؤدية أغنيات الفيلم بصوتها الجميل وطريقة غنائها التي تخترقك بلا استئذان.

الفيلم ممتع وجميل، سحره يكمن في بساطته وشاعريته، ستُعانق شخوصه وتشعر بألفة غريبة معهم، ستجد همومك في همومهم، ستغترب معهم نفس غربتهم، سيرهقك البحث عما يبحثون عنه، ستُسّر أن تعرف بأمر من يشاركوك ذات الشعور، ستفقد معهم ذاتك وتسعى لإيجادها.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى