في السنوات الأخيرة في مصر، كان يبدو لأي زائر عارض من خارج البلاد لمواقع التواصل الاجتماعي أن الغالبية الكاسحة من الحكم والمقولات والحقائق المتداولة عن الحب والمشفوعة بأيقونات قلوب وفراشات وصور لأيدي متعانقة وقطط وليدة –هذا إن لم تكن جميعها– كانت مستمدة من مصدر وحيد بات في وقت وجيز هو الدليل الأساسي لكل من يريد أن يفهم ويستوعب ماهية الحب، وهو عمل روائي ثالث قفز باسم كاتبه إلى مرتبة النجومية بين الكُتاب، وهذا العمل بالطبع هو (هيبتا) لكاتبها محمد صادق.
لم اقرأ رواية (هيبتا) سوى مؤخرًا، وقبل صدور الفيلم بعدة أشهر، وذلك لكي أكون رأيي عنها بنفسي دون الركون لآراء معارفي وأصدقائي الذين قرأوها وحذروني من قراءتها، وذلك لأني لا أحب إطلاق الأحكام المجانية أو إطلاق التعميمات على عواهنها -بدون معرفة تامة بطبيعة ما أطلقت حكمي عليه- في استسلام تام للتصنيفات الجاهزة بكون هذا أدب رفيع أو ذاك أدب (فرز ثالث) وغيرها من التصنيفات التي أراها متعسفة.
نتيجة القراءة؟ صحيح أن محمد صادق يستحق التحية لمحاولته الوصول لأكبر عدد ممكن من القراء دون الاكتفاء بالتوجه المعتاد نحو جمهور مثقفي وسط البلد، ونجاحه الذي لا يستطيع أحد إنكاره أيا كان موقفه من الرواية في اجتذاب شرائح جديدة من القراء وكارهي القراءة والكتب، إلا أنني لم أحب الرواية على الإطلاق حتى مع نجاحي في الانتهاء منها في جلستين فقط، وجدت فيها مزيج لم استسغه من افرازات كتب التنمية الذاتية مع حكايات رومانسية مكررة ومقولبة، وبناء شكلي مستهلك يجاهد مطولًا في ضخ التشويق في أوصال كل الحكايات ليصلها ببعضها البعض.
هذا كل ما أردت قوله عن (هيبتا) كرواية، واﻵن ماذا عن (هيبتا) كمحاضرة أخيرة، أو كفيلم؟
بداية، لماذا تعد التنمية الذاتية علمًا زائفًا على غرار ما يعرف بعلم اﻷبراج؟ ﻷنها عبارة عن مزيج مختلط من المعارف المختلفة لا تكون في ناتجها النهائي علمًا بالمعني المفهوم، بل تكون مجرد أبنية نظرية تحاول اختزال كل ما هو مركب ومتشابك في العلوم الانسانية إلى بضعة خطوات نموذجية ومقولبة لا تقوم على تجريب عملي بقدر ما تقوم على تشكيل نظري جذاب من الخارج لكنه في الوقت ذاته فارغ ومفرط في التبسيط من الداخل، وهذه التركيبة الهلامية التي تقوم عليها التنمية الذاتية قد ساعدت الكثيرين في التحول إلى نجوم يجدوا من يستمع إليهم، ويضعوا مئات العناوين البراقة على غرار (كيف تكسب اﻷصدقاء وتؤثر في الناس، قدرات غير محدودة، من حرك جبنتي، 10 خطوات فعالة للنجاح في دفع المكتب بأصبع القدم الصغير، كيف تتفوق في فن تخليل الخيار واللفت..... الخ).
ما علاقة التنمية الذاتية بالفيلم؟ انظر إلى اﻹطار الخارجي للحكاية الذي يتشكل من خلال المحاضرة التي تجمع القصص اﻷربعة في جعبتها، ألا ترى معي أن إيجاز وتلخيص فكرة مركبة وغير بسيطة وأحيانًا غير مفهومة للغالبية العظمى مثل الحب في سبعة خطوات هو أمر فيه من التعميم بما ينطبق على كافة منتجات التنمية الذاتية؟ وهل كل علاقات الحب في هذا الكون الفسيح تسير على نفس النمط ونفس الترتيب بالضبط؟ ألا يفترض هذا الشكل أن كل علاقات الحب مجرد نسخ مكررة من بعضها البعض؟ ألا يسلب ذلك من كل علاقة تفردها وخصوصيتها وملابساتها الخاصة؟ من أين يأتي هذا اليقين الصارم؟
ومن المحاضرة ننتقل إلى الحكايات داخل المحاضرة نفسها بناء على ما سبق، كل العلاقات الرومانسية اﻷربعة التي يقوم عليها الفيلم مجرد ترجمة متعسفة لكل اﻷفكار التي يسردها المحاضر شكري مختار (ماجد الكدواني) في المراحل السبعة للحب، وكل الاتجاهات التي تسلكها علاقات الحب اﻷربعة كانت تسير لكي تكون خادمة فقط لسطوة هذه اﻷفكار وميكانزم التطور الذي رسمته المحاضرة حتى مع تباينها الظاهري، مما جعل تصور الفيلم عن فكرة الحب مجرد تصور مُراهق وغير ناضج يتحرك وفق ترتيب آلي مسبق وأفكار خيالية حالمة لا أكثر.
كان لشكل المحاضرة تأثير سلبي كبير على منح الفرصة للمتابعة.. المحاضر مع كل حكاية لا يكتفي بالسرد فقط، وإنما كان يعرج كذلك على تفسير كل منحنى درامي جديد يمر به اﻷبطال الثمانية ولا يترك الفرصة للمشاهد لكي يستنتج بنفسه تطورات العلاقة وخطوط سيرها، وهو ما يسلب روح الحكاية منهم جميعًا محولًا إياهم إلى مجرد أمثولات نظرية وليست حكايات تحاول جاهدة أن تنتفس.
وفي الحكايات نفسها، كنت اسأل نفسي من أي منابع استقى محمد صادق في روايته ومن بعده الفيلم التفاصيل الرومانسية للحكايات اﻷربعة سوى من الكومة الضخمة من روايات عبير وزهور وأحلام، والزاخرة بمئات قصص الحب التي لا تخرج في خطها العام عما رأيناه في الفيلم والرواية من تفاصيل بالغة النمطية والافتعال ذات بريق خارجي يليق للغاية باﻷغاني المصورة وليس بفيلم سينمائي.
وعلى ذكر اﻷغاني المصورة أو "الفيديو كليب"، فمنذ مشاهدة اﻹعلان اﻷول للفيلم الذي كان أشبه بإعلان زبادي بالفواكه، كنت متيقنًا من الشكل الذي سيخرج عليه الفيلم، واﻷمر ليس له علاقة بخلفية المخرج هادي الباجوري العريضة في إخراج اﻹعلانات الدعائية واﻷغاني المصورة بقدر ما يرتبط بتطبيق المنهج اﻹخراجي في اﻹعلانات واﻷغاني بنفس الكيفية في فيلم سينمائي، ولا أعيب على الفيلم بكونه "أنيقًا أكثر من اللازم" بقدر ما أعيب عليه التفكير في هذا التوجه فقط كغاية في حد ذاتها أكثر بكثير من كونها يجب أن تخدم الحكاية، مما جعله فيلم "فيديو كليباتي" النزعة إذا جاز التعبير.
كان هناك أمر مزعج بالنسبة لي في مشاهد المحاضرة، وهو القطع بالمونتاج طوال الوقت بمناسبة ودون مناسبة على زوجة المحاضر وحبيبته القديمة (نيللي كريم وشيرين رضا) بالرغم من كونهما لا تفعلان أي شيء على شريط الصورة سوى الاستماع إلى المحاضرة، وكأنه لا يوجد في الحضور سواهما، وذلك حتى لا يخل بصورتهما أمام الجمهور كشركاء في البطولة، فكان لا بد الحفاظ من تواجدهما الدائم أمامنا حتى لو كان هذا التواجد مفرطًا ولا معنى له دراميًا.
وعلى حد قول ماجد الكدواني داخل الفيلم "خلاص كده؟ اسودت؟ مفيش أمل يعني؟ لا في"، ولكي نكون منصفين، كان السيناريست وائل حمدي يحاول بقدر المستطاع أن يجتهد على اﻷقل حواريًا في عدد ليس بالقليل من المشاهد (خاصة حوارات رؤى ودينا)، كما خفف كثيرًا من ابتذال شخصية ب (صار اسمها كريم في الفيلم) داخل الرواية التي كانت تتمتع بأكبر قدر من الحوار الممجوج، كما قدم المشهد التكشُّفي الذي يفسر حقيقة القصص اﻷربعة في نهاية الفيلم بشكل أكثر سلاسة وأقل تقليدية عن الرواية، لكن في الوقت ذاته كانت تحركات وائل حمدي في السيناريو محدودة بالسياق العام الذي تسير عليه الرواية، ومن الواضح أن محمد صادق قد مارس قدرًا كبيرًا من الرقابة على كيفية تقديم روايته سينمائيًا لكي لا يقع في اصطدام مع الجمهور المخلص للأصل اﻷدبي.
وبعيدًا عن مشاكل اﻹخراج، كان هناك تفوق واضح في عدد من اﻷداءات، وأخص بالذكر ياسمين رئيس وجميلة عوض وماجد الكدواني وأحمد داود الذين نجحوا في الخروج من أسر نمطية الشخصيات التي وضعت لهم وتجاوزوها أدائيًا بكثير كاسرين جمودها، كما أحببت كالعادة موسيقى هشام نزيه التي تنجح دائمًا في ترجيح كفة أي عمل فني مهما كان مستواه الفني أو الدرامي.
(هيبتا: المحاضرة اﻷخيرة) لم يخرج كثيرًا عن توقعاتي منذ قراءتي للرواية وحتى مشاهدتي للفيلم، ربما ﻷن اﻷصل اﻷدبي نفسه لا يفسح المجال ﻷكثر مما يمكن تقديمه بالفعل حتى لو توافرت اﻹرادة الكافية للتفوق عليه، فالسطوة التي يتمتع بها النص اﻷصلي باتت مسيطرة على صناعه وجمهوره على حد سواء، لدرجة أني قرأت تعليق مضحك من أحد مستخدمي فيس بوك يقول فيه :" من لم يقرأ رواية هيبتا حتى الآن، فلم يدخل بعد عالم الروايات!"