من جديد، يعاود المخرج محمد خان في فيلمه الجديد (قبل زحمة الصيف) زيارة واحدة من تيماته المفضلة، وهى تيمة الهروب من الحيز المكاني حين لا تفلح كافة السبل وتفشل كل الحلول التي يختارها البطل معه في التطبيع والتكيف مع الظروف المتقلبة والخانقة للمكان التي تحاصر البطل وتحجم حركته وآماله.
نفس التيمة عايشناها من قبل على نحو واضح من خلال فيلم (خرج ولم يعد) مع عطية عبدالخالق (يحيى الفخراني) الذي يأتي أمامه حل سحري ينفذه من طاحونة العيش القاسية في العاصمة مع سكن مهدد بالانهيار وخطيبة لا يحبها وعمل يمقته، وهو الهروب إلى الريف الهاديء المسالم. نفس التيمة جاءت بشكل مختلف قليلًا مع فيلم (عودة مواطن) حين يقرر شاكر (يحيى الفخراني مرة أخرى!) أن يعود إلى وطنه بعد سنوات من الاغتراب في الخليج ليكتشف أن الأحوال قد صارت اسوأ مما كانت عليه قبل السفر مما يضعه أمام العودة لمهربه من جديد.
في (قبل زحمة الصيف)، تعود تيمة الهروب لتكون لها اليد الطولي في قصة الفيلم التي تدور داخل إحدى قرى الساحل الشمالي (وهو مكان جديد على سينما محمد خان بشكل عام)، سواء مع الطبيب يحيى (ماجد الكدواني) الذي يحاول الابتعاد بقدر الإمكان عن مشاكل عمله التي تتطور للأسوأ، أو مع المترجمة الفاتنة هالة (هنا شيحة) التي تحاول اللقاء بحبيبها خفية عن الأعين.
طبيعة المكان الذي تدور به جميع أحداث الفيلم تبدو من النظرة الأولى واعدة دراميًا للغاية: مكان مفتوح، مياه صافية، رمال بيضاء، خواء شبه كامل من البشر، انفتاح كامل مع الطبيعة الأم، ولا تنسى أن تضيف إلى كل ذلك أن أبطال القصة معدودين على أصابع اليد الواحدة، فلديك خمس شخصيات رئيسية لا غير، ناهيك عن السهولة في التقارب بينهم بحكم وحدة المكان وذوبان الفواصل التي تحكم خصوصياتهم، لكن في مقابل كل هذا، يبدو أن دراما الفيلم شاحبة وشحيحة بما لا يتوافق مع الطبيعة المكانية التي تسمح بما هو أكثر، لماذا؟
بالتأمل في عناصر الحكاية في الفيلم، تشعر بأن كل منها تحمل مجرد طيف من أعمال أقدم أكثر تميزًا وأعلى في القيمة الفنية لمحمد خان من هذا الفيلم، ولكن هذه المرة هنا لا تحمل نَفَسُه المعتاد، حتى يتسلل إلى الفكر إحساس بأنه "لا جديد تحت الشمس" بالنسبة لمحمد خان، وبأن الأمر هنا تحول إلى مجرد إعادة تقديم لنفس الأفكار في ثوب مختلف.
بالنسبة للعلاقة بين يحيى وزوجته ماجدة التي يشوبها الاحتقان منذ بداية الفيلم، فنحن نأخذ في مراقبتهم على مدار أسبوع تقريبًا، وفي كل يوم نجدهم كما هم بدون أي تطوير أو تكثيف حقيقي لأزمات العلاقة في هذه الفترة القصيرة، كلاهما يتصرفان وفقًا لكتالوج مسبق التحضير عن الرجل المتطفل المتربص بأي أنثى تقع في طريقه، والزوجة الغاضبة النكدة صباحًا ومساء، لا يوجد أي تغلغل حقيقي في دواخل العلاقة بقدر ما يوجد اهتمام أكثر بما يعتمل بشكل مفتعل على سطحها فقط.
طوال أحداث الفيلم، تتكرر الأفعال اليومية للبطلين بدون أن تتحول إلى مؤشر حقيقي لتقلبات العلاقة، مثل تربص يحيى بجارته هالة (هنا شيحة) عن طريق مراقبته إياها بالنظارة المكبرة علنًا في حضور زوجته، أو انغماس الزوجة في جلسات التأمل، أو انهماك الزوج في متابعة الأزمة التي هرب منها عن طريق الصحف، وحتى الانفجار العاطفي الذي ينتاب الزوجة مع قرب نهاية الفيلم نحو زوجها الذي لا يبالي بمشاعرها يأتي بشكل فجائي، ومن خلال حدث خارجي تسبب به جمعة (أحمد داود) عن عمد، وليس من داخل العلاقة نفسها.
لكي تستوعب ما أقصده، عليك بمشاهدة الفيلم البريطاني 45 Years الذي تدور أحداثه هو الآخر خلال أسبوع بين زوجين مسنين، وقبل الاحتفال بالذكرى الخامسة والأربعين لزواجهما، هنا يأتي الحدث الخارجي (العثور على جثة الحبيبة القديمة تحت الجليد) في بداية الفيلم كنقطة انطلاق للأحداث، بينما يترك الباقي لهما لنراقب الزوج الذي يرثى لحبه القديم، والزوجة التي تشعر بالألم لكونها قد اكتشفت بعد كل هذا العمر الطويل أنها قد جاءت في حياة زوجها لتحل محل الحبيبة الراحلة، وليس لكي يؤسس معها حياة كاملة. شاهد هذا الفيلم وقارن بين الحالتين لتكتشف الفارق.
وعلى الجانب الآخر، لم تكن قصة هالة أوفر حظًا من قصة يحيى وزوجته، فهالة هى الآخرى حوصرت دراميًا في قالب المرأة الجذابة ذات القدرة الهائلة على لفت الأنظار إليها بفضل جمالها وجاذبيتها، وكل من يحيى وجمعة يسيل لعابهم بمجرد مرورها أو استلقائها على الشاطئ، وحتى تطورات وتقلبات العلاقة مع الممثل هشام (هاني المتناوي) الذي تقابله في السر متسرعة جدًا، كما كانت مسألة وجود امرأة آخرى تزاحم هالة على العلاقة أمرًا دخيلًا وزائدًا على الدراما، وفي رأيي كان من الكافي جدًا العمل خلال كتابة السيناريو على إحساس هشام بعدم التحقق المهني بسبب عمله الدائم في الأدوار المساعدة وتغذيته كعامل مؤثر بالسلب على علاقته بهالة التي تفوقه طبقيًا وإجتماعيًا.
ربما كان الخط الذي سار على نحو مرضي دراميًا هو الخط الخاص بجمعة العامل الصعيدي في القرية الذي كان يشتهي هالة جنسيًا بشكل لا تخطئه العين، ويشعر بأن يحيى ينافسه عليها ويفوقه كذلك بما له من وضع اجتماعي يفوق جمعة بكثير، ولهذا كانت جميع أفعاله وتصرفاته متسقة مع بعضها البعض بدون تناقض سواء بدافع الحرمان الجنسي الذي يعاني منه أو بدافع "الخبث الصعيدي" الذي يتندر به عموم المصريين.
أعتقد أن مشكلة غادة شهبندر بشكل عام في نصها السينمائي الأول أنها كانت تحاول رسم الشخصيات من الخارج للداخل من خلال الأفعال الخارجية لها، لكن ما حدث أنها لم تنجح في ربط تلك التصرفات الخارجية بالدوافع النفسية الداخلية لها (فيما عدا شخصية جمعة)، وهو ما جعل شخصياتها تتجمد عند هذه الحالة دون قدرة على التطوير الدرامي سوى بعوامل خارجية.
وعلى نفس النسق، ربما يحاول محمد خان هنا أن يزور نفس مواضيعه الأثيرة من زوايا جديدة، لكن من الواضح أنها كانت زيارة لا تحمل نفس تميز أعماله الكلاسيكية.