"السعادة؟ لا أعرف معنى هذه الكلمة" هكذا ردت داليدا فى أحد حواراتها القديمة على سؤال حول شعورها بالسعادة فى حياتها، فالنجمة العالمية التى تعد من أساطير الغناء فى العالم، ولها أكثر من 500 أغنية بتسع لغات، واجهت الفشل فى حياتها الخاصة، وتعرضت لعدة مآسي لم تستطع مواجهتها، مما جعلها تنهي حياتها بطريقة تراجيدية، حيث تناولت جرعات زائدة من الأقراص المنومة تاركة وراءها رسالة فيها جملة واحدة: "سامحوني الحياة لم تعد تحتمل".
وفي هذا الشهر الذى نحتفل فيه بذكرى ميلاد أميرة الشمس كما أطلق عليها الفرنسيون، نتذكر نجمة استثنائية حققت نجاحاً عالمياً، ولكنها لم تنس مصر البلد التى ولدت وعاشت فيها أجمل سنوات عمرها، وقالت عنه أنها وطنها الأول الذى تفخر بانتمائها إليه.
معاناة منذ الصغر
يقال أن الإبداع يولد من رحم المعاناة، ويبدو أن المعاناة كانت ملازمة لها منذ الميلاد، فقد ولدت فى حي شبرا لأبوين إيطاليين هاجرا لمصر مع بداية القرن العشرين، وعانت منذ ميلادها من بقعة غريبة فى عينيها كادت أن تغطي بؤرة النظر لديها، فخشى الطبيب أن تعيش عمياء، ولذا أمر والديها أن يغطيا عينيها الصغيرتين بغطاء سميك لمدة 40 يوماً، وهكذا عاشت الطفلة "يولاندا جيلوتي" أول أربعين يوماً فى حياتها لا ترى شيئاً، وبعد أن خلعوا عنها العصابة وجدوا أن عينها اليسرى بها "حول" خلقي، فأجروا لها أكثر من عملية، ولفترة طويلة كانت ترتدي نظارات قبيحة المنظر، مما سبب لها عدة أزمات نفسية، لأن زملائها كانوا ينادونها باسم ذات الأربعة عيون، ولكنها على الرغم من ذلك حاولت أن تعيش حياتها بشكل طبيعى، فكانت تعشق التمثيل والغناء، لذا تعلمت العزف على البيانو، وأخذت دورساً فى الغناء، ولكن هذه الحياة الطبيعية آبت أن تستمر طويلاً، فقد تعرضت الأسرة لأزمة كبيرة عندما اعتقل والدها الذى كان عازفاً بالأوبرا لمدة 3 سنوات أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث عانت داليدا وأسرتها من الفقر وضيق العيش، مما اضطر الأم للعمل فى خياطة الملابس لكي تستطيع الإنفاق على أبنائها.
لم تتوقف مأساة الأسرة عند ذلك الحد، فبعد خروج الوالد من السجن تبدلت شخصيته، وأصبح أكثر عدوانية وقسوة مع أبنائه، وخاصة داليدا التى لم يكن يسمح لها بالخروج مع أصدقائها.
ملكة جمال مصر
بعد وفاة الوالد إثر جلطة دماغية، قررت داليدا أن تعمل لمساعدة أسرتها، فأخذت دروساً على الآلة الكاتبة، وعملت سكرتيرة فى مصنع أدوية، ولكن بالرغم من ذلك لم تنس حلم الشهرة والنجومية، وفى ذات يوم قرأت إعلاناً فى جريدة عن إقامة مسابقة ملكة جمال مصر، فقررت الاشتراك فيها، وحازت اللقب، وقد حكت فى حوار قديم ظروف اشتراكها فى المسابقة قائلة "قرأت فى جورنال ديجيبت إعلاناً عن مسابقة للجمال، فاشتريت مايوهاً وذهبت إلى الأوبرج دون أن أخبر أحداً، وشاركت فى المسابقة، لكن من سوء حظي أننى فزت، وهكذا عرفت والدتي بما حدث، فعاقبتني بأن قصت لي شعري، لكن ما أن طول شعري مرة آخرى حتى قررت استكمال الطريق الذى بدأته".
وكعادة كثير من النجمات، كان الجمال جواز مرورها لعالم السينما، حيث شاهدها المخرج نيازي مصطفى، وأسند لها دوراً صغيراً فى فيلم سيجارة وكاس مع سامية جمال وكوكا، واختار لها اسما فنياً هو دليلة، بعدها التقت المخرج الفرنسي "ماركو دي جستين" عندما جاء لمصر ليصور فيلمه قناع توت عنخ آمون، وأسند لها دوراً صغيراً أيضا، وبعد سماعه لصوتها نصحها بالسفر إلى باريس لكي تبدأ مشوارها الفني من هناك.
باريس.. حلم النجومية
لم تفكر داليدا كثيراً فى الأمر، إذ كان حلم الشهرة والنجومية مسيطراً عليها، فقررت السفر إلى باريس خاصة أنها تتقن عدة لغات منها الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، وبالفعل ودعت الحي الشعبي الذى عاشت فيه أجمل سنوات عمرها إلى باريس، وهناك لم يكن الأمر سهلاً أو المجال مفتوحاً، حيث أمضت فترة فى البحث عن أى فرصة فى مكاتب التمثيل، وعملت مطربة فى الملاهي الليلية لكى تستطيع الإنفاق على نفسها، ومضت حوالي سنة ونصف دون أن تتقدم خطوة واحدة لا فى التمثيل ولا فى الغناء، ومن الطرائف التى ذكرتها داليدا عن تلك الفترة أن جارها فى نفس الدور الذى كانت تسكن فيه فى باريس شاباً وسيماً له نفس أحلامها، وكان يقول لها دائما حظك رائع، فأنت على الأقل تعملين فى ملهى ليلي، وتحصلين على أجر فى نهاية اليوم، أما أنا بلا عمل، لكن القدر حقق لهذا الشاب حلمه، وأصبح من أهم النجوم العالميين، وكان هذا الشاب هو الآن ديلون.
مسرح الأولمبيا
بعد أن يأست داليدا من تحقيق هدفها، قررت العودة لمصر، وفى أحد الأيام قبل السفر دُعيت للغناء فى مسرح الأولمبيا الشهير الذى كان يقيم فى يوم أجازة المسرح حفلاً مفتوحاً للمواهب الغنائية الشابة تحت عنوان "نجوم الغد" فذهبت للحفل وقدمت أغنية، وعندما استمع لها "لوسيان موريس" مدير إذاعة أوروبا ووقع فى غرام صوتها، كما كان موجوداً بالمسرح "إيدى باركلاي" صاحب شركة إسطوانات، والذى كان يبحث عن أصوات جديدة، فعرض عليها العمل معه، وهكذا أقلعت داليدا عن فكرة العودة لمصر، وقررت الاستمرار فى باريس.
كيف أصبحت داليدا؟
عملت داليدا فى باريس بالاسم الذى اختاره لها نيازي مصطفى وهو دليلة، وعن قصة تحول الاسم لداليدا قالت فى حوار قديم "حين سافرت إلى باريس كانوا يداعبوني طوال الوقت، ويسألونى ماذا فعلت بشمشون، ثم اقترح عليّ باركلاى صاحب شركة الإسطوانات ذات يوم أن أغير الاسم قليلا ليصبح داليدا بدلا من دليلة، فقلت له لكني لا أجد أحد اسمه داليدا، فقال ستكونين أنت وحدك صاحبة هذا الاسم".
نجاح ساحق
استطاعت داليدا أن تحقق نجاحاً ساحقاً خلال فترة وجيزة، وخلال 3 سنوات فقط أصبحت من أشهر مطربات فرنسا، وفى عام 1959 استطاعت أن تفوز بجائزة أوسكار التى يعطيها راديو مونت كارلو لأحسن مطربة تضرب أرقاما قياسية فى عدد مرات أغانيها المذاعة، كما أطلق عليها الفرنسيون لقب أميرة الشمس مما أسعدها كثيراً، وفى تلك الفترة تزوجت لوسيان موريس مدير إذاعة أوروبا بعد قصة حب طويلة، ولكن هذه القصة الجميلة التى كتبت عنها الصحف الفرنسية فى ذلك الوقت لم تستمر طويلا، حيث قررت الانفصال عنه بعد أشهر قليلة، لأنها وقعت فى حب رسام يدعى "جان سوبيسكى"، وبعد الانفصال تزوج موريس من امرأة أخرى ولكنه انفصل عنها بعد فترة، وحاول العودة لداليدا لكنها رفضت، فانتحر مطلقاً النار على نفسه، فأصيبت بصدمة كبيرة، كما عانت فى تلك الفترة من فشل بعض أغنياتها، ولأنها لم تكن قوية إلى الحد الذى يسمح لها بتجاوز هذه المحن، فحاولت الانتحار، ولكن تم إنقاذها فى اللحظات الأخيرة على يد شقيقها.
استطاعت داليدا بعد فترة أن تتجاوز هذه المرحلة السيئة، وبالتشجيع والإصرار عاودت النجاح مرة أخرى، وقدمت أعظم أغنياتها، وحصلت على جائزة الأوسكار للغناء العالمي عام 1974 ثم الإسطوانة البلاتينية، كما أهداها الرئيس شارل ديجول وسام الفنون والآداب.
فشل فى الحب والزواج
على الرغم من النجاح الأسطوري الذى حققته داليدا، إلا أن الفشل كان ملازماً لها فى حياتها الخاصة، حيث وقعت فى حب شاب إيطالي يدعى "لويجى تانجو" كان يحلم بأن يصبح مطرباً مشهوراً، وبالفعل ساندته داليدا، ولكنه فشل قى مشاركتها فى مهرجان "سان ريمو" للموسيقى، والذى كان سيطلقه لعالم النجومية، فأقدم على الانتحار بعد انتهاء الحفل الذى تم فيه إعلان نتائج المهرجان، وكانت داليدا أول من رأى جثته مغطاة بالدماء، فانهارت ودخلت المستشفى وحاولت الانتحار هى الآخرى، ولكن تم إنقاذها بصعوبة، وبفقدان تانجو شعرت أنها فقدت حلم عمرها، فقط كان بالنسبة لها الرجل الذى غير حياتها، وأعطاها الأمل فى أن تعيش حياة طبيعية ويكون لها زوج وبيت وأطفال، تكررت المأساة مرة آخرى عندما ارتبطت بشاب فرنسي، ولكن انتهت القصة أيضا بانتحاره.
مصر.. الوطن الأول
رغم النجاح والشهرة التى حققتهما داليدا فى العالم، وغنائها بثماني لغات هي الفرنسية، الإسبانية، الإنجليزية، الإيطالية، الألمانية، الهولندية، اليابانية والتركية، إلا أنها لم تستطع تجاهل الغناء باللغة العربية، وحققت نجاحاً كبيراً، وعن فصة غنائها بالعربية قالت فى حوار سابق " لم أكن أتصور أن أغنياتى باللغة العربية ستحقق هذا النجاح والانتشار، فعندما غنيت من كلمات صلاح جاهين وألحان جيف برنيف الموسيقار العربى المقيم فى فرنسا أغنية سالمة يا سلامة، ونجحت الأغنية، دفعنى هذا النجاح لأغنى بعدها حلوة يا بلدى ثم أحسن ناس وأغنيات ثانية أخرى" وأكدت داليدا فى حوارها أنها لم تنس مفردات اللغة العربية قائلة "مستحيل أن أنسى، فقد تركت القاهرة بعد أن عشت فيها سنوات من عمري، كما تربطني صداقات إلى اليوم ببعض العرب والمصريين المقيمين بباريس، كما استمع أحيانا إلى بعض نجوم الغناء العربى مثل أم كلثوم، فيروز، صباح، فايزة أحمد ووردة"، وقد قدمت داليدا العديد من الحفلات فى مصر ولاقت نجاحاً وإقبالاً كبيراً.
وفى العديد من حواراتها كانت داليدا تعتز بالسنوات التى عاشتها فى القاهرة، فتقول هناك ثلاثة أوطان لها مكانة فى حياتى، مصر التى شهدت مولدى ونشأتي، وفرنسا وإيطاليا لأنها وطن والدي.
اليوم السادس
على الرغم من النجاح الكبير الذى حققته داليدا فى كل دول العالم كمطربة، إلا أنها لم تنس التمثيل، فقامت ببطولة عدة أفلام فرنسية، ولكن لم تكن أفلام ذات قيمة كبيرة، ولم تحقق نجاحاً يذكر.
وإذا كان أول فيلم مثلته داليدا مصرياً، فإن المصادفة أن أخر فيلم قامت ببطولته كان مصرياً أيضا، وهو اليوم السادس للمخرج يوسف شاهين، وكان لاشتراكها فى هذا الفيلم قصة، حيث أن أغلب فنانات مصر رفضن القيام ببطولة الفيلم، وفى إحدى اللقاءات التى جمعت بين شاهين وداليدا طلبت منه أن تلعب الدور، فتردد فى البداية بسبب لغتها العربية المكسرة، والتى قد تسبب لها إحراجاً خاصةً عند جمهورها المصري، ولكنها صممت على تقديم الدور، وجلست تحضر للفيلم مع شاهين لأكثر من سنة ونصف، وبالفعل قدمت الدور بجرأة وشجاعة، حيث قدمت دور جدة، وظهرت بدون ماكياج طوال أحداث الفيلم.
الحياة لم تعد تحتمل
"سامحوني الحياة لم تعد تحتمل" كانت هذه الرسالة التى تركتها داليدا لجمهورها وعشاقها، بعد أن أقدمت على الانتحار بتناول جرعات زائدة من الأقراص المهدئة، وعلى الرغم من أنها كانت قد صرحت قبل وفاتها بفترة قصيرة أنها ستعتزل عام 2000، وأنها لا تخشى من تقدم العمر، إلا أنها لم تف بوعدها، حيث قررت أن تنهى حياتها بطريقة مأساوية فى الثالث من مايو عام 1987 ، وكان عمرها 54 عاما، لتنضم إلى كثير من المشاهير والنجوم الذين أقدموا على الانتحار رغم النجاح والشهرة والنجومية التى حصلوا عليها.