تستضيف بانوراما الفيلم الأوروبي في نسختها السادسة هذا العام المخرجة الفرنسية الكبيرة كلير ديني، واحتفاءاً بها عرض ضمن فعاليات البانوراما فيلم 'Beau Travail'.
تعتبر كلير ديني من أهم مخرجي فرنسا في الثلاثين عاماً الأخيرة. منذ عملها الأول 'Chocolat'، الذي اختير للمسابقة الرسمية بمهرجان كان عام 1988, واعتبره النقاد وجمهور المهرجان عمل أول مكتمل ومبشر. ويضم مشوار كلير 11 فيلماً روائياً طويلاً، إلي جانب العديد من الأفلام القصيرة، وثلاث أفلام تسجيلية. ومنذ عام 2002، تدرس كلير السينما في مدرسة الخريجين الأوروبية في ساسفي بسويسرا.
نظراً لنشأة كلير في العديد من الدول الأفريقية، حيث كان يعمل أبيها موظفاً حكومياً متنقلاً بين هذه الدول، سيطر علي الجزء الأكبر من أفلامها موضوع الاستعمار الفرنسي لإفريقيا: ما حدث أثناءه، والآثار التي خلفها علي الشعوب وثقافاتها بعد جلاءه.
فيلم 'Beau Travail' إنتاج عام 1999، من تأليف وإخراج كلير ديني، مستوحي من رواية "Billy Bud" لهيرمان ميلفيل، ويحكي عن رقيب في الجيش الفرنسي يدعي "جالوب" يقود مجموعة من الجنود خلال تدريباتهم اليومية في معسكر داخل صحراء دجيبوتي. جالوب رجل عسكري من الطراز الأول، وهب حياته للنظام اليومي، صمته في معظم الأحيان وهدوءه الشديد يحوطه بهالة من الغموض تتلائم مع صرامته في تطبيق نظامه وتوجيه جنوده. ينضم إلي الوحدة جندياً يبدو وأنه أثار انتباه جالوب وغيرته بسبب اجتماعيته الشديدة وحب زملاءه له، فتبدأ هذه الأحاسيس بأن تؤثر علي تعامل جالوب معه ويظهر انحيازه ضده أثناء التدريبات. يعصي الجندي أمر من أوامر جالوب، فيعاقبه بأن يأخذه إلي منتصف الصحراء ويطلب منه أن يرجع إلي المعسكر علي قدميه، بعد أن يفسد له اتجاهات بوصلته.
في 'Beau Travail'، تستخدم كلير ديني الصورة كأداتها الأساسية في السرد، والتي تعلم جيداً كيفية استغلالها في عرض تطورات الشخصيات وصراعاتها . اللقطات الكبيرة لوجوه الشخصيات، التي وجهتها ديني بإحكام، تحكي بنظراتهم قصة الصراع الذكوري الذي قد ينشأ بين رجلين تجمعهم عزلة الصحراء والحياة العسكرية الصارمة. تتابع اللقطات والتنقل بالزمن عند كلير ديني ليس بالضرورة لخدمة القصة وتحريكها، ولكنه يخلق إيقاعاً تأملياً يجعلنا مهتمين بشكل أكبر بمتابعة الشخصيات عن متابعة تطور الفيلم ومراحل حكايته. تصور ديني صحراء دجيبوتي بشكل يظهر مدي انبهارها بها، فهي لا تستخدمها كخلفية لمشاهدها فقط، بل تصبح مساحاتها المتباينة في طبيعتها هي العنصر الوحيد في الكثير من اللقطات. وتخلق سحراً خاصاً حين تمتزج بالإيقاع المنتظم لمشاهد تدريبات الجنود اليومية والموسيقي المختارة بعناية. وكما تجرد كلير ديني قصتها وتجرب في إيقاعها، ترسم لقطاتها بشكل لا يخلو من العفوية، وترتبهم بشكل يبدو عشوائياً للوهلة الأولي، ولكنك بعد مشاهد الفيلم الأولي تشعر بأنك ارتبطت بالمشاهدة وأصبح تلقيك متناغماً مع تتابع المشاهد.يقدم دينيس لافانت دوراً آخراً مذهلاً في اختلافه عن بقية أدواره، فهنا تثبت كلير ديني أن حضور دينيس علي الشاشة وحده يكفي بأن يرتبط المشاهد بالشخصية التي يؤديها، فالرقيب "جالوب" صامت في معظم مشاهده في الفيلم، ولكن وجه دينيس الغامض الغير مفوم يضيف عنصراً من التشويق، حيث أنه من الصعب توقع ردود أفعاله وتطور شخصيته.
فيلم 'Beau Travail' سينما مجردة تتلاعب بالصورة والصوت فقط، ويقف وراء صنعها مخرجة تعشق التجريب وتخلق أعمالاً لم تقدر قيمتها الحقيقية