في إطار عروض بانوراما الفيلم الأوروبي في نسختها السادسة، تم عرض فيلم 'Hide Your Smiling Faces' للمخرج الأمريكي دانيال باتريك كاربوني. الفيلم هو العمل الأول لمخرجه، وقد تم اختياره هذا العام كمرشح لجائزة أفضل عمل أول في مهرجان الفيلم بلندن، ونال أيضاً ترشيحاً لأفضل فيلم روائي في مهرجان تريبيكا.
الفيلم يحكي عن الشقيقين إريك وتومي، اللذان قد نزحا مع والديهما إلي منطقة نائية في الجزء الغير مأهول نسبياً من أحراش نيو جيرسي. يكون الشقيقان صداقات جديدة مع بقية أطفال وشباب المنطقة، وفي أحد النهارات الصيفية الرتيبة، بحضر أحد أصدقاءهم (إيان) مسدساً ويريه لتومي وإريك، ويبدأ الثلاثة في اللعب والمزاح بالمسدس، في مشهد موتر تتوقع فيه من إيقاع الفيلم المسكون حتي الآن، أن تنطلق منه رصاصة قاتلة فجأة تنهي حياة أحد الصبيان.لكن يأتي والد إيان ويأخذ المسدس منه، ثم ينهره أمام أصدقاءه محرجاً إياه ويرتكه ليركض بسرعة مبتعداً وسط الأشجار. يحاول إريك وتومي اللحاق بيه، لكنهما لا يستطيعان، حتي يجدانه في أحد الأيام جثة هامدة ملقاة علي حافة نهر. لا يحزن الشقيقان، ولكنهما يتفاجآن من هول الموقف، فهما لا تتجاوز أعمارهما مجتمعة العشرين عاماً، وقد رأوا لتوهم أول حادثة موت حقيقة أمام أعينهم. ومن هنا، يأخذنا دانيال باتريك كاربوني في رحلة روحانية نتابع فيها الولدان وهما يستوعبان ويحاولان تقبل فكرة الموت لأول مرة.
بمجموعة من اللقطات الهادئة، والمتأملة، يفتتح دانيال كاربوني فيلمه وهو يتابع الشقيقين إريك وتومي وهما يستكشفان الأحراش. من اللحظة الأولي، يدعونا كاربوني إلي رحلة تأملية مُخَدِّرة تتجول فيها مع الشقيقين داخل الغابة بإيقاع محاكياً لأحلام اليقظة. لا يقوم الشقيقان بنشاط خاص من نوعه، فهم فقط يقودا دراجاتهما، يسبحا في بحيرة، يتصارعا بمزاح، ويقابلا أصدقائهما في لقطات طويلة يخلص فيها كاربوني في إظهار الحوار العفوي والأفكار البدائية للصبيان بأعمارهم المختلفة. لكن سرعان ما يختلف هذا المناخ بعثور إريك وتومي علي جثة إيان، فيصبح إيقاع مشاهد كاربوني أهدأ، ولكنه محمل بالكثير من التشويق، فالشقيقين الآن في نقاهة من تجربة رؤية الموت ومواجهته، وهم في فترة يتقبل فيها عقلهما الفتي وخيالهما الخصب فكرة الموت. لم يختار المخرج الغابة كالموقع الأوحد لتصوير الفيلم ليصور لقطات جمالية يوظف فيها وحشتها وتضاريسها المختلفة وحيواناتها البرية لخدمة الفيلم بصرياً أو لخلق حالة تأملية فقط، ولكنه تعامل مع الغابة كالبيئة المحيطة لإريك وتومي التي يعكس عليها ما يدور في بالهما. فهم يأخذون جثة كلب وجداه في الغابة إلي منزل والد إيان كنوع من الانتقام، حيث أنهم يظنون أنه دفع إيان إلي الانتحار، ويتلو إريك صلاة طفولية جميلة أثناء حرق تومي لجثة راكوون قد وجداه أيضاً نافقاً أثناء تجولاتهم النهارية. ويواجة تومي احتمال الموت حين يقابل دباً برياً.كاربوني يعلم جيداً تكوين شخصية الصبي المراهق والطفل. فهو قرر أن يصنع فيلماً لا تتحرك فيه أحداثاً بعد الربع ساعة الافتتاحية، ولا توجد به حبكة أساسية، ولا تصاعد درامي واضج. ولكنه مع ذلك، ملأ عالمه بتفاصيل يصعب علي معظم صناع الأفلام التقاطها بهذه الواقعية (حتي الكبار منهم)، من ممثلين صغار السن نجح كاربوني في توجيههم بما يتلائم مع رؤيته.
مع الفارق في أسلوب المخرجين البصري، كاربوني يذكرنا بتيرانس ماليك في تأمله وحبه للطبيعة وبحثه عن التفاصيل التي تكتسب قيمتها من بساطتها وآدميتها الشديدة. 'Hide Your Smiling Faces' صامت في معظمه، ولكنه يختلف عن أفلام مالك بأنه مفعم بالتوتر والتشويق، لأنه كما يتأمل في داخل نفسية إريك وتومي، لا يتأمل الطبيعة بشكل منفصل، بل يتأمل تفاعل إريك وتومي معها، و يضعهما في مواقف جديدة تماماً بالنسبة لهما، تجعلك تتذكر لحظات من طفولتك وتبتسم أحياناً لسذاجة وبراءة أبطال الفيلم، وفي أحيان أخري تتوحد مع هدفهما اللحظي أياً كانت تفاهته: وهنا يكمن سحر الفيلم. وكما يذكرنا كاربوني بمالك، يذكرنا أيضاً بالمخرجة الأمريكية كيلي ريتشارد التي أخرجت أحد أهم أفلام عام 2008 المستقلة، 'Wendy and Lucy'. فكاربوني، مثل ريتشارد، تمكن من إخراج فيلماً محكماً ذو رؤية وأسلوب بصري واضحين، يحتوي علي قدر كبير من جماليات السينما ومهارة في خلق أجواء درامية مشحونة من أبسط التفاصيل، وتماماً ككيلي ريتشارد تابع الفيلم رحلة بحث تأملية وسط مساحات شاسعة من الغابات والتضاريس الموحية. وبأبسط التكاليف.
الأفلام مثل 'Hide Your Smiling Faces'تحرج الكثير من الصناع الذين يتطلعون إلي إنتاج سهل (حتي وإن كانوا مخرجين مستقلين)، وتثبت بانتشارها مع الوقت، أن الكثير من المخرجين الموهوبين كدانيال باتريك كاربوني لن يقف أمامهم الحاجز المادي لصناعة أفلامهم كما يتمنون.