عندما جُنَّ الليل وألقى الورى ردائه على وجه الأرض، تركت مضجعي وسرت وحيداً منفرداً مبتعداً عن الزحام والضجيج، متأملاً في نجوم السماء وهي ترسل شعاعها الفضي لترشد التائهين في الصحراء، أتأمل في هذا الفضاء الرائع في أسراره وخفاياه. سرت وأنا رافع رأسي للسماء، ولما وصلت إلى المكان الذي أختلي فيه بنفسي، وهذا المكان عبارة عن حديقة صغيرة وجميلة، جلست على أحد المقاعد الإسمنتية أنظر من خلال أغصان الأشجار العارية نحو الشوارع المزدحمة، وبعد ساعات مفعمة بالأفكار، التفتت فإذا برجل جالس بقربي على المقعد وفي يده عصا يرسم بطرفها خطوطاً ملبسة من التراب، فقلت في نفسي هذا الرجل يحب الوحدة مثلي، ثم التفت إليه متبصِّراً شكله فإذا هو رجل ذو لحية سواء وشعر مخـوتـم ذو هيبة و وقار كأنه قد شعر بي أنظر إليه متفحصّاً شكله وملامحه، التفت نحوي وقال بصوتٍ عميق وهادئ مساء الخير، فأرجعت التحية، ثم عاد يرسم الخطوط بعكازه وبعد قليل وقد أعجبت بنغمة صوته خاطبته قائلاً، في أي حي تقطن و هل أنت قريب من هنا، فنظر إلي بنظرة عميقة ولم يتفوه بأي كلمة، فقلت في نفسي لعله غريب عن هذه المدينة، ثم خاطبته قائلاً هل أنت غريب عن هذه المدينة يا عم، فأجاب بنبرةٍ حادة، نعم أنا غريب عن هذه المدينة وغريب في كل الدنيا، قال هذا وهو ينظر إلى الفضاء الرمادي فاتسعت عيناه وارتعشت شفتاه كأنه رأى على صفحة الفضاء رسوم وطن بعيد، فقطعت تفكيره بسؤال كيف ترى هذه الدنيا الرائعة في نظرك فأجاب، هذه الدنيا عبارة عن البغض والحقد والكراهية فتنفّس عميقاً وقال : الدنيا في هذا العصر مقبرة الحب والسلام وعصر التيه والعولمة والأحلام، الدنيا كوكب المشاكل والازدحام، الدنيا قنطرة إلى عالمٍ أخر، عندما يصير الفقير مذلولاً والغني مستمتع بمحاسن الحياة، عندما يتوسّخ العقل ويسود الفؤاد وتتسمم الأفكار، عندما يصير الإنسان لا إنسان ويهبط إلى مرتبة الحيوان ولا يفكر إلا في الأكل والشرب والشهوة والاعتداء، عندما يتيه في سيئاته وينسى فعل الخيرات، سيبقى الغني مسجوناً بين جدران قصره ويموت داخل غرفة نومه والفقير المسكين لا أحد يدري عنه شيء، هل أكل أم أنه ما زال يبحث عن لقمة عيشه، فقطعته قائلاً ... إذا الأغنياء البخلاء لا يفكرون إلا في أنفسهم والفقراء المساكين يعيشون في هذه الدنيا معذبون، فأجاب بصوتٍ خافت إن الجائع المسكين يحلم بالخبز لكنه لا يعرف الكيفية التي تعجن بها، أما الأغنياء فحلمهم أكبر من عقولهم وكأنهم مخلدون، ولكن الله لا يحب الغني بماله أو الفقير بضعفه و لكنه يحب الأعمال الصالحة والواجبات المفروضة التي خلقنا من أجلها، فأعجبت بكلامه و عُدتُ أتأمل في منظره الغريب وأثوابه القديمة، وبعد سكينة نظرت إليه قائلاً : أظن أنك في حاجة، فهلّا قبلت مني هذا المال لتعين به نفسك، فأجاب وقد ظهرت على شفتيه ابتسامة فيها مزيج من السخرية، نعم أنا في حاجة لكن ليس المال، قلت له وماذا تحتاج، فقال إلى مؤوى، قلت له إذن خذ هذا المال و استأجر به غرفة يوم أو يومين، فأجاب : قد ذهبت إلى كل المنازل في هذه المدينة، بل في كل المدن، فلم أجد مأوى، وطرقت كل الأبواب فلم أجد لي صديق، فقلت في نفسي ما أغربه تارةً يتكلم كالفيلسوف وتارةً يتكلم كالمجنون، حدّق إليَّ شاخصاً ورفع صوته عن ذي قبل وقال : نعم أنا مجنون ومن كان مجنوناً ألا يستحق المؤوى، ففجعت بكلامه، ثم قلت له مستدركاً متأسفاً : سامح ظنوني يا سيدي، فأنا لم أعرف من أنت، و لقد استغربت من كلامك فهلّا قبلت دعوتي وذهبت لتقيم الليلة في منزلي، فرفع رأسه وأجاب : قد طرقت بابك ألف مرة ولم يفتح لي. قلت وقد تحققت من جنونه : تعال الآن معي إلى منزلي، فرفع رأسه وقال هل تعرفني، قلت له لا، فقال لو عرفتني لما دعوتني، قلت له من أنت إذاً وما اسمك، قال أما اسمي يصيب النفوس الضعيفة بالخوف والرعب، أما أنا فأنا العاصفة التي تقتلع الأرواح من الأجساد والأجساد من ظهر الأرض إلى باطنها في ظلام الليل، أسير وكل الأرواح تسير خلفي خائفين منتحين وليس بينهم من يستطيع الوقوف وليس منهم من له أمل في الوقوف، أسير وهم يتبعونني وكلما التفتت إلى الوراء أسقط منهم ألفاً إلى جانب الطريق، ومن يسقط يرقد ولا يستيقظ، ومن لا يسقط يسير قدر إرادته عالماً أنه سيسقط مع الذين سقطوا ويرقد مع الذين رقدوا أما أنا فأضل أسير محدقا إلى الأفق البعيد، فنظر إليَّ وقال : هل تريد أن تعرف اسمي، قلت نعم، قال اسمي بينكم غريب ولا أحد سُمّي باسمي منذ أن خلقت الأرض وحتى نهايتها، واسمي فيه ثلاثة حروف، فأصبتني الدهشة من كلامه، فقلت له : هل تمر دائماً من هذا الطريق، فقال بابتسامة ساخرة : أنا أمر على أقوامٍ ينادي الأخ أخاه، والأب أبنائه، والأم أطفالها، فأجدهم يضحكون ويلعبون، وأنا أطوف حولهم و أنتظر الساعة ساعة التهامي لأرواحهم وأجسادهم وشربي من دمائهم ودموعهم، وفي طريقي أمر على أناسٍ نائمون، ومنهم من لا يعرف طعم النوم، فاقطع نومهم بمخالبي، وأخذهم معي وأنا أضحك ثم أسير إلى الأفق البعيد، فأصابني الهلع والخوف من كلامه، فقلت له : بحقِّ الله من تكون، هل أنت جبار أم متمرد، من النظرة الأولى ظننتك عبداً من عباد الله، ثم قال : نعم أنا عبد من عباد الله، أطيع الله في أمره، في ظلام الليل أمرُّ عليك وأنت في غفلةٍ من أمرك، كما مررت قبلك على عروسين في ليلة الخلوة، تقول الزوجة لزوجها : هلّا أحضرت لي كوباً من الماء، فيذهب الزوج ليحضر الماء، فأنزل إليها وأخطف روحها من جسدها و أتركها جثةً هامدة، فيأتي الزوج فيجد زوجته قد رقدت رقود لا استيقاظ منه، فيذرف عليها دموع الحزن والوداع، فيدفنها بيديه، أما أنا فأذهب إلى مكانٍ آخر، أناديكم من نور النهار وظلمة الليل فتستجيبون، قد بُعثتُ إليكم أرواح موتاكم تحذركم مني، فلم تفهموا ما قالته الرسل. لقد تركتكم أيها الموتى لتدفنوا أمواتكم، لقد صرخت فيكم وما عسى ينفع الكلام والناس طرشٌ لا يسمعون، فزاد خوفي منه، ثم التفت إليه بكلمات متذبذبة مرتجفة : هل جئت الآن لتفعل بي كما فعلت بهؤلاء الذين حدثتني عنهم، فابتسم وقال : اعذرني لقد أرعبتك، لا تخف فلم يأتي دورك بعد. فبدأت أفكر في الكلمة الأخيرة لا تخف فلم يأتي دورك بعد، وأكثر ما زاد تفكيري أنه يتكلم ومتأكد من كلامه، فسألت نفسي هل سيأتي دوري كيف ؟ يا الله من يكون هذا الشخص المجهول، وبينما أنا شارد الذهن، قام من المقعد وقال : ألن تدعوني إلى بيتك، فقلت له: بلى، هيا نذهب. فابتسم ثم وضع يده على كتفي، وقال لي : اعمل عملاً صالحاً لأني سأزورك في يومٍ من الأيام، فزاد تفكيري .... كيف يدعوني إلى الصلاح وهو يحب الفساد والقتل !؟ .. فسبقته بسؤال : ألن تقول لي من تكون وما اسمك ؟ فرفع عينيه للسماء وقال كلمات غليظة : أنا هادم اللذات ومفرق الجماعات، أنا الموت. رفعت رأسي لأنظر إلى وجهه، فلم أرى أمامي سوى كومة من الدخان، ولم أسمع سوى صوت الليل آتياً من الفضاء، فلم أدري أكان خيالاً أم حقيقة، فغمضت عيني وفي عقلي أفكار وعلامات التعجب ...؟؟؟؟؟
المجلة غير مسؤولة عن الآراء و الاتجاهات الواردة في المقالات المنشورة