وصلني على شبكة النت قبل أيام كتاب جميل وبسيط وعميق جداً، أرجو أن أراه منشوراً على نطاق واسع، وهو بعنوان "قصص نساء معنفات في إسرائيل" أما مؤلف الكتاب فهو صديقي العزيز توفيق أبو شومر وهو روائي وباحث ومتخصص في الشأن الإسرائيلي، ومن خلال هذا الكتاب الذي تجمعت مادته من أرشيف الصحف الإسرائيلية الموجود لدى المؤلف، فإن توفيق أبو شومر يغوص بنا بوعي شفاف في عمق نسيج هذه الدولة العجيبة التي اسمها إسرائيل، والتي اعتدنا منذ نشأتها حتى اليوم أن نرى لها صورة زائفة براقة، ولكننا حين نتعب أنفسنا قليلاً في البحث والتقصي، نكتشف صورتها الأصلية، صورة معتمة، عدوانية، عنصرية متخاصمة حتى العداوة مع نفسها، ومتصادمة حتى القطيعة مع المنطقة التي زرعت فيها، ومتعاكسة مع خط التاريخ الانساني.
في هذا الكتاب الجميل البسيط العميق، يحدثنا توفيق أبو شومر عن الحريديم بكل فصائلهم، وعن المرأة الحريدية التي يجب أن تسير على الرصيف الشمالي من الشارع، والتي لا يجب أن ترفع صوتها لأنه عورة، والتي هي ليست أكثر من "دفيئة" لانتاج الأولاد، والتي يتكاثر التمييز العنصري والديني ضدها في أحياء الحريديم في القدس، وفي بني براك، وبيت شيميش، وحتى داخل الجيش الإسرائيلي، بينما اعتادت إسرائيل في الخارج أن ترسم لها صورة زائفة، من خلال امرأة "الكيبوتس" الذي ذبل في إسرائيل حتى التآكل، أو صور المجندات على الحواجز ونقاط التفتيش ضد الفلسطينيين في الضفة المحتلة، أو في شركة العال وبعض المؤسسات السياحية.
يتكاثر عدد الحريديم في إسرائيل شيئاً فشيئاً، ويزيد نفوذهم في كل المؤسسات الإسرائيلية، حتى أن الكثيرين في إسرائيل يحذرون من هذا الانقلاب الذي يشبه الطوفان الجارف، ولأن السياسيين في إسرائيل تهمهم مصالحهم ولا ينظرون إلى أبعد من تلك المصالح، فإنهم يخضعون لهذا الاجتياح الحريدي، ويحنون رؤوسهم له، وشيئاً فشيئاً تتحول إسرائيل التي توصف من قبل أصدقائها وحلفائها الذين يستخدمونها إلى دولة قادمة من كهوف الخرافة، ومن شقوق العنصرية والحقد الأسود، واعتقد أن اليوميات التي نعيشها الآن كفلسطينيين في أرضنا من قبل هذا الزحف الحريدي هو خير مثال على المستقبل الذي لن يكون بعيداً.
توفيق أبو شومر – كعادته – يفرض علينا من خلال هذا السرد البسيط، وهذه المقتطفات الواضحة التي لا نحتاج إلى جهود لفهمها، والعودة إلى أصول الدين اليهودي، والشريعة اليهودية، والفلسفة العنصرية الصهيونية، يفرض علينا أن نرى المفارقات، وأن نرى التشابهات أيضاً لهذه الحالة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حتى لقد أصبحنا على بينة من الأمر بأن كثيراً مما يحدث عندنا وخاصة على نطاق ممارسات الإسلام السياسي هي في الأصل آتية إلينا من النبع نفسه، وإلا لما كان هذا التطابق الرهيب.
ولو قرأنا كتاب توفيق أبو شومر بهدوء فسوف نجد تفسيراً لما يحدث معنا سواء على صعيد المفاوضات أو على صعيد الممارسات العنصرية السوداء من مجموعات تدفيع الثمن الإسرائيلية أو حركة الاستيطان أو التهويد أو حتى الأداء السياسي لبنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته الذي لا يختلف أحدهم في شيء عن هذا التفكير الحريدي أو هذا السلوك الحريدي.
أتمنى – كما قلت – أن أرى هذا الكتاب الذي نشره مركز باحث للدراسات الاستراتيجية ومقره بيروت، أن ينتشر على نطاق أوسع، وأن تتبناه دور نشر ومكتبات عربية كثيرة، إنه حقائق صادمة ولكنها معروضة بشكل سهل ممتنع، لأن الكاتب توفيق أبو شومر صديقي العزيز، معروف عنه سعة المعرفة، وعمق المتابعة، ومشهور عنه التواضع وعدم الميل إلى الاستعراض، أنه عالم بتكوين إسرائيل ونسيجها السياسي والديني والاجتماعي، وقد كون لنفسه عبر هذه المعرفة العميقة والثقافة الواسعة رؤية راسخة عما حدث وعما يمكن أن يحدث، وأنا أدعوكم أن تبحثوا عن كتابه وتقرأوه، سواء على صفحات النت، أو الكتاب الورقي، أنه يمدنا بثقة يقينية في ما نعرفه، ولكننا لا نبوح به في معظم الأحيان، بسبب أن الأصوات السياسية الصارخة هي التي تملأ المكان، فأين يذهب العارفون بالله حقاً، والعالمون بالحقائق القاسية؟؟؟