علينا نحن المصريين رجالا وشيوخا وشبابا ونساء وصبايا مثل الورد المفتح.. أن نعترف حقا وصدقا ويقينا أننا إذا كنا الأوائل في كل شيء منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها..
فنحن أصحاب رسالات ونحن الذين علمنا الدنيا ما لم تعلم.. ونحن أصحاب أعظم حضارة عرفها الإنسان قبل خمسين قرنا من الزمان ويزيد.. ومازالت الحضارة المصرية وما تقدمه للإنسانية لغزا محيرا يتوه في بحوره كل ذي عقل وكل ذي حكمة وكل ذات جمال وخفة ودلال..
ولكننا أسف لم نكن الأوائل في عالم الصحافة.. «صحافة الرجال» و«صحافة النساء»!
تسألون وهذا حقكم علينا: ازاي؟ وليه؟ ولم؟ ومن قال هذا؟ والجواب: نعم اخواننا في الشام.. في لبنان وسوريا.. هم الذين سبقونا في ميدان الصحافة ومهنة الأقلام والقرطاس..
فقد قدم إلينا الاخوان سليم وبشارة تقلا إلي مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.. واصدرا معا في الإسكندرية أول صحيفة مصرية يومية اسمها (الأهرام صباح الخامس من أغسطس عام 1876 قبل 138 سنة بالتمام والكمال.. ليصبحا معا أول جرنالجية في بر مصر كله!
وقدم إلينا من الشام أيضا جورجي زيدان ليصدر مجلة الهلال قبل قرن ويزيد من الزمان..
ولكن فاجأتنا في الإسكندرية هند نوفل اللبنانية المولد المصرية الجنسية والمقام.. باصدار أول جريدة مصرية نسائية تحت اسم: العربية في نوفمبر عام 1892.. لتتوقف بعد سنتين لخطبة صاحبة الجريدة.. ثم تعود بعد ذلك لمدة عامين وتتوقف نهائيا لزواج صاحبة الجريدة وانجابها الانجال!
وهكذا ودون زعل كان الشوام هم أول من علمنا مهنة الصحافة وأول من ادخلنا بلاط صاحبة الجلالة.. رجالا ونساءا!
صحيح أننا تسلمنا الراية وتفوقنا علي كل أهل العالم العربي والافرنجي ولنصبح السادة دون منازع في الصحافة والفن والأدب والسينما والمسرح وكل ما يمت بصلة للإبداع والخلق والفن الرفيع.. ومن هذه كلام آخر.. فليحتفظ به لنفسه!
ولان حديثنا كله مع المرأة المصرية في سجل نضالها من أجل حريتها.. تعالوا نتعرف ونقترب أكثر من الشموع التي اوقدتها المرأة المصرية في بلاط صاحبة الجلالة.. ومن هذه كلام آخر.. !
وقد تسألون: ما بالك قد نسيت جريدة الوقائع المصرية، وصحيح أن جريدة الوقائع المصرية التي اصدرها محمد علي باشا في 3 ديسمبر 1823 كانت أول جريدة مصرية وقد رأس تحريرها رفاعة رافع الطهطاوي أديب مصر العظيم.. ولكنها كانت جريدة رسمية ناطقة باسم الحكومة ولم تكن جريدة للشعب ومن الشعب..
..........
وكما تقول هنا الدكتورة لطيفة محمد سالم في كتابها الرائع: المرأة المصرية والتغيير الاجتماعي: لقد وجدت الصحافة النسائية في مصر منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وأسهم في تأسيسها الشاميات، وحاولن فيها تثقيف المرأة المصرية في مختلف الموضوعات، والعمل علي النهوض بها، وتدريجيا دخلت المرأة المصرية المجال الصحفي، وأصدرت المجلات والصحف، ومع الحركة الوطنية في عام 1919 أصبح للصحفيات دورهن في النهضة النسائية فتدعو ملكة سعد في مجلتها »الجنس اللطيف في عددها الأول في أكتوبر 1919 ـ المرأة للصحوة »يا فتاة قومي« وتنادي بتعليمها، وتنقل لها ما حصلت عليه المرأة الأوروبية، وأنها لا تقل عنها، وتبث فيها قوة التحرك بقولها: »لا تتنحي عن الذهاب إلي الجمعيات، فتجتمعي برفيقاتك وتتباحثن عما يدور بالبلاد وتبدين رأيكن«.
واحتضنت أفلام المثقفات ونشرت لهن إنتاجهن، ونقلت أخبار النهضة النسائية في العالم لتوضح الصورة حول الدعامات الأساسية لحرية المرأة، وتدافع عن الصحفيات وتلوم طلعت حرب لتجاهله لهن عند افتتاح شركة النسيج بالمحلة الكبري، فيرسل لها اعتذارا يبين ان الاغفال جاء عفوا ولن يتكرر!
وتمكنت لبيبة أحمد ـ ولها من المواقف الوطنية والاجتماعية ما يشهد لها ـ أن تصدر مجلة »النهضة النسائية« والتي لها البصمات الواضحة حول قضايا المرأة، وفيها تمكنت صاحبتها من الخوض في مختلف الموضوعات التي تبلور كيان المرأة وتعطيها الثقة وتشجع خطواتها، وعليه فشكلت جهازا إعلاميا متكاملا تولي خدمة القضية النسائية بمختلف ابعادها كما كانت لها المسحة الدينية بما أتت به في تفسير القرآن الكريم وآداب الإسلام، واتفق هذا وطبيعة صاحبة المجلة التي حرصت علي تأدية فريضة الحج سنويا.
وبرزت منيرة ثابت في الميدان الصحفي، ولها طابعها الخاص فهي ثائرة بل ومتمردة علي أوضاع المرأة، وما يرتبط بها من عادات وتقاليد سائدة، منفعلة في طلباتها، جريئة في معاملاتها، صادقة في كفاحها، وقد لازمت والتصقت بخطوات تحرك المرأة في هذه الفترة فمنذ عام 1920 ورغم صغر سنها كأن لها من الجولات الصحفية الكثير .. فقد كتبت مقالات عديدة في صحيفتي السفور والأهرام بتوقيع مصرية وثائرة، وناضلت ضد طلعت حرب في آرائه التقليدية عن المرأة.
وفي عام 1925 اصدرت ملكة سعد مجلتها »الأمل« وسجلت تحت اسمها أنها للدفاع عن حقوق المرأة، ومعروف الاتجاه السياسي الذي انحازت له بعد أن لقيت المساندة من حزب الوفد، وأعلنت عن برنامج صحيفتها الذي تناول تغييرا جوهريا لمركز المرأة، كما أصدرت مجلتها بالفرنسية LEspoirte ليطلع الرأي الأوروبي الداخلي والخارجي عن حالة المرأة المصرية.
والطريف هنا انه عند انعقاد المؤتمر الوطني في 19 فبراير 1926، دعيت كصحفية إذ لم تمثل المرأة في هذا المؤتمر. ونراها تدخل مجلس النواب مرتدية الملابس الأوروبية والقبعة، شاهرة الحرب علي النظام القديم، ولتجلس في شرفة الصحفيين!
وفي بداية عام 1928 نالت شهادة مدرسة الحقوق الفرنسية، فقد تقدمت إلي لجنة الامتحان التي اعتادت وزارة المعارف الفرنسية ان ترسلها سنويا لهذا الغرض مع سبعة وعشرين طالبا وطالبة من الفرنسيين والإيطاليين والسوريين والمصريين، فكانت المصرية الوحيدة ونجحت بتفوق كما جاء في الأهرام.
وتابعت عملها وخاضت مغامرات الصحافة فرفع عليها وكيل وزارة سابق قضية أمام المحكمة المختلطة مطالبا بتعويض عن مقالات نشرتها عنه، وعدها تنال من كرامته ووقفت الصحفية أمام النيابة، وحدث في القضية ما يستدعي التوقف، فقد أعلنت منيرة ثابت تحملها المسئولية الناتجة عن المقال باعتبارها صاحبة المجلة، بينما أعلن المحرر عبدالقادر حمزة مسئوليته، وكان ذلك دليلا علي تحمل المرأة المواقف بشجاعة ولم تكف عنه مجهودها الذي واصلته فتكثر من مقابلتها للمسئولين هادفة ومحاولة انتزاع حقوق المرأة من بين يديهم راغبة في بث المباديء، والآراء العصرية في عقولهم، وبلغ بها الأمر أنها قابلت شيخ الأزهر عام 1940 ثلاث مرات، وتناقشت معه في شرعية تلك الحقوق. كما جاء في جريدة روزاليوسف أيامها.
وأصدرت تفيدة علام مجلة «أمهات المستقبل» ولها ميولها العدائية لحزب الوفد وانعكس ذلك علي مقالاتها كصحفية، وعالجت الموضوعات التي تهم المرأة، وطرقت المجال الاجتماعي، وطالبت المرأة الارستقراطية بالنهوض بالمرأة الفقيرة، وفي هذه المجلة كتب أصحاب الآراء المتقدمة من الكتاب والصحفيين.
واتجهت هدي شعراوي إلي المجال الصحفي، فاصدرت مجلتها LEgyptienne في الفترة من 1925 إلي 1940 وحررتها سيزا نبراوي ـ وهي علي درجة عالية من الثقافة الفرنسية ـ لتكون المرأة الصادقة التي تنقل لخارج مصر مجهودات المرأة المصرية، وخطوات تقدمها لايقاف الرأي العام في الخارج علي صورة صحيحة لما عليه المرأة في مصر، ولادحاض الادعاءات التي نالت منها، ووصفتها بالتخلف والرجعية، ولربطها بالحركة النسائية الدولية، فكانت دعاية للمرأة خاصة ولمصر عامة، وارسلت لأكثر من ثمانمائة قاريء أجنبي وكونت الأصدقاء حتي في افريقيا واستراليا واليابان كما يقول الأهرام في 16 فبراير 1928. ووصفتها جريدة الفيجارو الفرنسية بأنها حلقة الاتصال بين الشرق والغرب أيامها
ثم أصدرت هدي شعراوي زعيمة النهضة النسائية المجلة باللغة العربية »المصرية« وكتبت المقالات فيها، وعرضت آراء الكتاب وفكرهم الذين يساندون تحرير المرأة أمثال توفيق الحكيم وفكري أباظة، وتناولت الشئون المنزلية ولكن بقدر بسيط، إذ أرادت هدي شعراوي ايقاظ الوعي النسائي خارج البيت أكثر من داخله، واستخدمت في تحرير مجلتها المثقفات اللاتي جاهدن في غرس ونمو النهضة الجديدة.
.........
مازلنا نسبح مع المرأة المصرية في زورق صاحبة الجلالة الصحافة.. قبل نحو ثمانين عاما ويزيد.
وكما تقول الدكتورة لطيفة محمد سالم.. فقد دخلت نبوية موسي الزعيمة الشعبية مجال الصحافة.. واصدرت مجلة الفتاة.. وتحدثت فيها عن السياسة ومشاكل المجتمع والأدب والفن .. كما كتبت فيها عن ذكرياتها وكفاحها في عالم السياسة.. كما تقول مجلة المصور أيامها..
وأصدرت هانم محمد العسقلاني مجلة «فتاة مصر» لكي تكون خير سبيل تتقدم به المرأة لخدمة مجتمعها، وأنها لا تقل كفاءة عن الرجل في ممارسة العمل الصحفي »لقد انقضي ذلك لعصر الذي خيل إلي الناس فيه ان المرأة متاع وزينة وزخرفة، أليست الصحافة صورة للحياة القومية، فكيف تكون هذه الصورة كاملة إذا هي نقصت ما يكمل المجتمع. واتبعت منهج الصحافة النسائية في الاستعانة بكتابات مبار المفكرين.
وكانت لبيبة هاشم من الصحفيات المثابرات إذ تولت شئون مجلتها »فتاة الشرق« واهتمت بقضايا المرأة، وتناولت النواحي الاجتماعية وركزت علي التعليم واعتبرته الطريق الموصل لغايات المرأة وطموحها.
وفي حقيقة الأمر فإن للصحافة فضلا علي المرأة بعد أن آمنت بأهميتها وقدرت جهودها واخلاصها في العمل، فتسند صحيفتا الأهرام والبلاغ تمثيلهما في معرض الصحافة الذي اقيم في 7 يناير 1930 إلي سعاد صبري ومثلت الأهرام وألقت كلمتها بفصاحة ومعها أمينة السعيد والتي مثلت البلاغ وألقت شعرها الحماسي كما تقول مجلة العروسة في 29 يناير 1930.
..........
ولقد صاحب النهضة الصحفية نهضة أدبية.. فالصلة بينهما قوية ولو ان إنتاج المرأة في المجال الأدبي، ليس بالكثير ولكنه أثبت وجوده وكان الاتجاه الفرنسي واضحا علي أعمال المرأة نظرا للدراسة التي تلقتها وللبيئة المحيطة بها، وتناولت أقلام درية فهمي وفاطمة نعمت راشد ودرية شفيق وبولا العلايلي موضوعات فرنسية في الأدب والفلسفة والشعر، لكن ليس معني ذلك عدم وجود كتابات عربية، فقد كتبت مي زيادة وسهير القلماوي وبنت الشاطيء ونبوية موسي وإحسان أحمد ومنيرة ثابت وفاطمة فهمي وجميلة العلايلي ورباب الكاظمي في الأدب والترجمة والتدبير المنزلي والشعر.
........
ولا ننسي هنا أبدا فاطمة اليوسف التي قدمت من التمثيل إلي بلاط صاحبة الجلالة.
ولقيت صاحبة روزاليوسف التشجيع والمساندة من الأدباء والصحفيين وأعضاء مجلس النواب والفنانين، فشخصيتها تملي علي الجميع احترامها.. لذا لم تكن تمر مناسبة إلا ويكرمها مؤيدوها.
وواصلت جهادها في السياسة عن طريق الصحافة، ودافعت عن الدستور، ودخلت السجن ولم يفت ذلك في عزمها لاصرارها وعنادها وكلما أوقفت مجلتها اصدرت أخري باسم جديد، ولها وقفات معينة تجاه الإصلاح الاجتماعي، وتحسين أوضاع المرأة الفقيرة، فاختارت الفتيات ليقمن ببيع مجلتها اليومية والأسبوعية حتي تبعدهن عن التسول أو جمع اعقاب السجائر أو الخدمة في البيوت.
وكتبت إلي المرأة العاملة ونصحتها بالطريق الذي تسلكه ولكنها اصرت علي نظريتها والتي اتفقت فيها مع نبوية موسي بالتفرغ للعمل والتضحية من أجله بالزواج!
........
اتذكر هنا ما قاله لي أستاذنا الكبير في قسم الصحافة الدكتور خليل حمايات.. عندما قال: الصحافة هي مهنة المرأة والمرأة خلقت للصحافة.. وقد دخلها الرجال بطريق الخطأ!
أسأله: طيب والفن?
قال: الفن ياعزيزي خرج من رحم المراة.. فالمراة هي امه وهي ابوه!..
ولكن ذلك حديث آخر {