يرى الطفل في أمه الأمل والملجأ، يستشف آثارها المحبوبة بدفقات الحب والحنان اللذين تمده بهما ويحس بهما في كل موقف، والأمومة وظيفة إنسانية تعني الاستمرار من أجل البقاء، وهي وظيفة تبدو منذ بداية تكوين الجنين في بطن أمه، والجنين وحدةٌ عضوية مرتبطة بالأم، يتأثر بغذائها، وانفعالاتها، وهو جزء منها مرتبط بها، وعند الولادة تنفصم الوحدة العضوية بين الأم والجنين، وتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الأمومة، حيث يعيش الطفل بعد الولادة في وحدة نفسية مع أمه تستمر لفترة طويلة.. فهو عاجز عن تلبية حاجاته بنفسه، لذا لا بد من اعتماده على رعاية أمه له وقيامها بتلبية متطلباته بالصورة التي تحفظ استمرار حياته، وتعينه على تطور نموه الجسمي والنفسي والعقلي، إن الطفل في هذه المرحلة يحتاج لرعاية أمه بالذات .. ولا يستطيع أي فرد آخر غيرها منحه الرعاية بنفس القدر من الاهتمام والكفاءة.
وشعور المرأة الفطري بالأمومة هو الذي يعينها على تلبية حاجات طفلها في صبر وتضحية وحنان نادرين.. وهذا الحنان هو الذي يلبي حاجة الطفل النفسية إلى الاطمئنان، وللشعور بأنه مقبول ومرغوب فيه، وهما من أهم ضرورات التكوين النفسي السليم للطفل، وكلمة الرحمة مشتقة من الرحم الذي يحتضن الجنين تسعة أشهر، وفيه تنبثق أولى أشعة الحياة.
وعلى هذا فعلاقة الطفل بأمه في هذه المرحلة، هي أولى علاقاته بالحياة، وهي علاقة تزداد توطداً كلما كانت الأم أقدر على إشباع حاجات طفلها النفسية، التي لا يشبعه منها إلا حنان الأم، ولا يعوضه عنها أي شخص بديل آخر.. وإذا لم يتوفر هذا وبالقدر الكافي، يؤدي ذلك إلى الخلل في تكوين الطفل النفسي، بصورة قد تدعو إلى تحطيم مستقبله الحياتي.
الرضاعة
تتم الصلة الأولى بين الطفل وأمه عن طريق الفم عندما ترضعه، وتحمله وتشده إلى صدرها، أو تداعبه بين يديها. وتشكل الرضاعة في البداية فعلاً شبه انعكاسي، توقظ الوليد من حالته اللاواعية، ثم لا تلبث أن تأخذ طابعاً فاعلاً وتشكل مصدراً حقيقياً للذة.
وأثناء الرضاعة يبدي انطوائية، وينهمك في مص الثدي، مركزاً على الإحساسات العميقة المتصلة بالتغذية،إنه يحس ـ دون شك ـ تجاهها بإحساس مبهم بالسعادة، فذلك الثدي الذي يلثمه بفمه يلقى فيه سيلاً من الإحساسات الدافئة والحانية…
وتعتبر الرضاعة أولى الحاجات المباشرة التي يحس بها أكثر من حاجاته الأخرى، فلبن الأم في هذه الفترة العمرية ـ من الناحية الصحية ـ يشكل أفضل غذاء للطفل، ومن الناحية النفسية فإن احتضان الأم طفلها، يشعره بالدفء والطمأنينة، والحب والقبول، مما يعينه على تنشئة نفسية سوية وقد وجد «ستيفنس» (أن الأطفال الذين تناولوا حليب الأم الطبيعي كانوا أكثر مقاومة لأمراض الجهاز النفسي وأكثرها طولاً ووزناً)(1).
وإذا كان لا بد من التغذية غير الطبيعية، فعلى الأم أن تضع طفلها في حضنها أثناء إرضاعه ليكون في أقرب صورة ممكنة للرضاعة الطبيعية، وتحاول أن تغمره بين ذراعيها وتضمه إلى صدرها، ليشعر بدفء، عطفها وحنانها، مما قد يعوضه عن الكثير من ذلك الإشباع الذي كان سيجده في الرضاعة الطبيعية.. ويرى الأطباء أن الرضاعة الطبيعية هي نبض الحياة وشريانها الخافق الذي يسري في شرايين الأم ويمتزج ويرتبط بشرايين طفلها.. وزيادة على أنها تزيد الرابطة توثقاً وتآلفاً بين الطفل وأمه، فإنها تعتبر سياجاً مانعاً يقي الأم من الإصابة ببعض الأمراض وخاصة السرطان.. كما أنها من أكبر العوامل التي تساعد الأم على أن تحافظ على رشاقتها واعتدال قوامها بعد الولادة، وخاصة فيما يتعلق بالرحم. وهذا يرجع إلى تأثير الهرمونات المصاحبة للرضاعة. ويقول العلماء: إن مجرد وصول حلمة الثدي إلى شفتي الوليد وشروعه بالامتصاص لأول مرة تظهر أمورٌ وصفها الباحثون بأنها كالسحر أو هي السحر المعجز بالذات. إنها «الصمغة أو لبن المسمار» تعقم فم المولود وجهازه الهضمي، وتكون مصّاً أول الأمر، ثم تتحول إلى الرضاع، حيث يدر اللبن ويتوافد إلى الثديين اللذين يستعدان لتقديم الغذاء.. إنه ليس كاللبن.. ويسترخي بدن الأم فيصل الاسترخاء إلى الرحم المتوتر، فيتراجع التوتر بالتدريج، وكذلك تتراجع معظم حالات آلام البطن عند الأم بسبب تراجع الرحم إلى موضعه.
وهذا ينفي اعتقاد بعض الأمهات أن الرضاعة ترهل الصدر، فهي على العكس من ذلك تساعد على استعادة الجسم لطبيعته، ويرى بعضهم أن الرضاعة الطبيعية أفضل للأم، وهي أسلم وسيلة لمنع الحمل لعدة شهور بعد الولادة .. وذلك إذا كانت كاملة، أي تقتصر على لبن الأم فقط. وإليك بعض فوائد الرضاعة الطبيعة:
1- توفر للطفل غذاء معقماً عند درجة حرارة مناسبة تلائم احتياجاته الغذائية ملاءمة كاملة.
2- يتغير تكوين اللبن تغيراً كاملاً ومرحلياً، فخلال الأيام الأولى الثلاثة بعد الميلاد يكون خفيفاً وسهل الهضم، ويحتوي على كمية كبيرة من المواد الغذائية تناسب هذه الفترة من حياة الطفل، ويسمى «لبن المسمار» وقد أثبتت الدراسات الحديثة.. وأفاد الدكتور «أحمد التاجي» أن لبن الأم يتغير في اليوم الواحد.. فنجده في الصباح تختلف كثافته عن الظهيرة والمساء. بحيث يكون خفيفاً نسبياً في الصباح .. وفي فترة الظهيرة يصبح أكثر دسامة، وفي الليل يصبح خفيفاً وسهل الهضم.
3- وفي الدراسات الأمريكية.. تم اكتشاف التغيير في لبن الأم بنسب خلال الرضعة الواحدة.. فعندما يبدأ الطفل وجبته .. يكون اللبن مخففاً وتزداد دسامته بالتدريج، كما أثبتت الأبحاث أن أسباب سوء التغذية لدى الطفل الذي يتناول وجبته من ثدي أمه، ترجع إلى أن الأم تفضل إعطاء الطفل رضعات قصيرة المدى في فترات متقاربة.. وفي مثل هذه الحالة يأخذ الطفل في كل مرة الجزء المخفف من الرضعة، وتتوقف الأم عن استكمال الرضعة قبل أن يبدأ في رضاعة اللبن الذي يحوي على المواد الدسمة المغذية.
وقيل: إن من عيوب لبن الأم احتواءه على نسبة قليلة من الحديد، مما ألجأ الشركات المصنعة للبن الصناعي إلى إضافة نسبة أكبر من الحديد.. غير أن البحوث الحديثة وجدت أن نسبة الحديد الداخل في تركيب لبن الأم هي التي تتوافق مع احتياجات جسم الوليد. وأي زيادة على ذلك تذهب هباء ولا يستفيد منها الوليد هذا إضافة إلى أن تكاليف الرضاعة الصناعية تشكل ضغطاً على اقتصاد الدولة.. ناهيك عن أن الرضاعة الصناعية تصيب الطفل بالحساسية، ومنها النزلات المعوية والإسهالات الشديدة، نتيجة تهيج الغشاء المخاطي المبطن للأمعاء.. وقد تحدث قروحاً في الأمعاء تفقدها القدرة على الامتصاص، مما يلجئ الأطباء لوصف المحاليل السكرية لتغذية الطفل، كوسيلة وحيدة لتعويض الجسم عما افتقده من سوائل، وذلك ريثما تشفى الأمعاء وتعود لحالتها الطبيعية، وأحيانا لا يحتمل الطفل هذه الأعراض فتصبح حياته في خطر.
بكاء الطفل:
يكتمل نمو الجهاز الكلامي عندما يكون الجنين في الشهر السادس من الحمل، ويبدأ هذا الجهاز بالعمل منذ ولادة الطفل، ودليل ذلك صرخته الأولى عند الولادة، حيث يعتبر الكثير من علماء اللغة صرخة الطفل دليل على نمو الجهاز الكلامي عنده، غير أن هذه الصرخة فعل منعكس لامتلاء الرئتين بالهواء وشعور الطفل بالضيق. ويتميز بكاء الطفل بالخصائص التالية:(3)
1- يصل متوسط بكاء الطفل في اليوم الواحد خلال الأسبوع الأول من عمره إلى 17 دقيقة.
2- يكثر صراخ الطفل في الفترات التي تسبق موعد الطعام.
3- يقل صراخ الأطفال عندما يتمتعون بصحة جيدة.
4- يساعد البكاء القليل في توسيع الشرايين عند الطفل.
وصحيح أن بكاء الطفل الوليد يزعج الأم وقد يوترها، ولكنها سترتاح إذا علمت أن الأبحاث والدراسات التي أجريت أثبتت أنّ البكاء والأصوات التي يطلقها الطفل تعتبر تصرفات طبيعية وصحية، فهي تؤكد أن الطفل يتزود بحاجته من الأوكسجين، وهي تُخلِّص الطفل من التوتر عندما يفرغ شحنته بالبكاء، وقد أجرت إحدى مستشفيات بوسطن اختباراً توصل منه إلى أنه تراود الطفل الرغبة بالبكاء في المساء، وفسر ذلك بأن الطفل حصل على كفايته من الحركة والإثارة، وفي هذا الوقت يعود أفراد الأسرة ويعج المنزل بالحركة، مما يضايق الطفل فيبدأ بالبكاء.
وجدير بالإيضاح ان بكاء الطفل نداء يحاول من خلاله الاتصال بمن حوله، وتلبية هذا النداء من قبل الوالدين تكون بحمله وبالاستجابة السريعة لرغباته، فيشعر أن هناك من يهتم به ويستمع إليه، وتهدم هذه النظرية الاعتقاد السائد بأن الأم التي تحمل طفلها إذا بكى تفسده وتدللـه.. وأثبتت الدراسات الحديثة أن الطفل الذي يلقى استجابة سريعة لبكائه ورغباته يتحول إلى إنسان غير نكدي: وليست له مطالب كثيرة كذلك الطفل الذي يترك في سريره مهملاً، وفي نظرية قام بها «أولدريش ومسونغ وكومب» عن أسباب البكاء عند الطفل تبين أنها كما يلي:
1- عندما يشعر الطفل بالجوع وتمثل نسبة 35% من بكاء الطفل.
2- عندما يشعر الطفل بالبلل وتمثل نسبة 20.6 % من بكاء الطفل.
3- عندما يشعر الطفل بالتبرز وتمثل نسبة 8.3% من بكاء الطفل
4- عندما يتقيأ الطفل وتمثل نسبة 0.5% من بكاء الطفل.
5- عندما يشعر الطفل بالألم أو التعب أو الملل، أو لمجرد رغبته في أن يحمله أحد ويضمه، وأسباب أخرى تمثل نسبة 35.1% من بكاء الطفل.
وبمتابعة الدراسات نجد أنه ثبت أن الطفل الذي يتلقى استجابة سريعة لبكائه تقل نوبات بكائه تدريجياً عندما يبلغ عاماً من عمره.. لأنه اقتنع بأنه قادر على دعوة الجميع للالتفاف حوله .. فيبدأ بالبحث عن وسائل أخرى للاتصال.. وبدلاً من أن ينشأ طفلاً مدللاً يميل إلى أن يصبح طفلاً مؤدباً، يسمع كلام الكبار، ويسعى إلى أن يعمل بتوجيهاتهم، لأنه اطمأن لحبهم له، وتعمقت ثقته بنفسه وبمن حوله.
وأفادت دراسات أخرى (أن الطفل في شهره السادس يمكنه أن ينقل الأشياء من يد إلى أخرى، ويتابع حركة الانتقال بانتباه، وفي هذا الشهر يصدر أصواتاً تتضح أكثر فأكثر، وتعتبر هذه الأصوات دليلاً على امتنانه لأمه).
ومما تقدم نرى أن بكاء الطفل علامة من علامات الألم، أو سبيل للإعراب عن توجع، أو سبيل لإبلاغ شكواه الناشئة عن شعوره بالوحدة، أو حاجته لاهتمام ورعاية أمه، أو افتقاره لمشاعر الأمان والطمأنينة، وغالباً ما تستطيع الأم حلها، لو فهمت شكواه وغمرته بالحب والرعاية الكافيين. ومن هذا المنطلق نُحذر من تجاهل بكاءٍ الرضيع لما يترتب عليه من عواقب ترتد سلباً على بناء الطفل النفسي. حيث ينشأ طفلاً عنيداً مشاكساً، متذمراً حادَّ الطباع مثيراً لضيق الآخرين.. وأمثال هؤلاء الأطفال يتجاهلون أهلهم في سن البلوغ، وهذا لا يعني أن تهرع الأم عند أول صرخة يطلقها صغيرها.. ولكن بمحاولة فهم دوافع البكاء والقيام بحلها، وذلك خوفاً من تطور هذا البكاء، وزيادة مدته، مما يؤدي لزيادة نوبات الغضب عند الطفل في المستقبل ويتحول لمشكلة انفعالية.
وينصح أطباء علم النفس الأم التي تريد الإقلال من بكاء طفلها، أن تراعي ذلك منذ الساعات الأولى لميلاده واتباع الخطوات التالية:
1- وضع الطفل في أعقاب الساعات الأولى لميلاده، وطوال الأسابيع الأولى في حجرة خافتة الضوء.
2- عدم ترك الرضيع يشعر بالجوع، أو اتباع نظام غذائي صارم خلال الأشهر الأولى.
3- إحاطة الطفل بالحنان.. بوضعه على صدر أمه، بحيث يتلاصق جسداهما تلاصقاً مباشراً، وإحاطته بذراعيها بحنان، ثم محاولة إرضاعه حتى يشعر بالدفء، وعدم الاغتراب
4- بذل جميع الجهود الممكنة حتى يحصل الصغير على وجباته من ثدي أمه.. ولا نلجأ للرضاعة الصناعية إلا إذا كان هنالك ضرورة قاهرة لذلك.
5- عدم التردد في حمل الطفل عندما يبكي .. مما يسهل اكتشاف سبب البكاء، والتصرف مع الصغير التصرفات التي تمليها الغريزة.. مع تجنب الاعتقاد السائد والخاطئ بأن التدليل سوف يفسده وأنا لا أعتقد أن الحمل جزء من الدلال، لأنه إشباع لحاجة نفسية، ومن نصائح الطبيب البريطاني الشهير «مايكل بنيت» نصيحة طريفة جداً. ينصح بها كل أم عندما يبكي طفلها الرضيع دون سبب.. بعد أن تكون قد راعته كل المراعاة من حيث النظافة والرضاعة.. فهو يقول:إنه مطلوب منها أن تبكي وتصرخ بنفس طريقة طفلها لمدة عشرين ثانية. ويقول: إن هذه الطريقة سوف تجعل الطفل يستغرق في النوم العميق.
وقد جرب الطبيب هذه الطريقة الجديدة على مائة طفل.. وقال إِنه في حال فشل هذه الطريقة على طفل ما .. فإنه بإمكان الأم ان تداعب قدم طفلها براحة يدها ليكف عن البكاء.
ويفسر الطبيب هذه الطريقة بقوله: «إن الفكرة مستوحاة من أن الطفل لن يبكي إذا سمع بكاء أمه» ويضيف أيضاً، «إن ردَّ الفعل العصبي يحدث عندما تبكي أمه بنفس طريقته ونغمته.. وتربت على جبهته بيدها…»