اما وقد ولدت الحكومة اللبنانية بعد مخاض عسير جداً، فلا بد من التوقف عند اشارتين تحملان كثيراً من المعاني: اولاً، خلوها من العنصر النسائي باستثناء سيدة دخلت الوزارة بديلا من وظيفة حجبت عنها، وهي كانت تستحقها بجدارة (وربما كانت لتدوم لها اكثر). وثانياً، الجدل الذي قام بين اهل السلطة والشأن على اختلاف سياساتهم، حول ما اذا كان الوزراء يجب ان يكونوا من السياسيين ام من التكنوقراط.
في الموضوع الاول، لم تتمكن المرأة في لبنان لغاية الآن من لعب دور كبير في العمل السياسي (مع احترامنا وتقديرنا لبعض الاستثناءات وهي نادرة جداً) بالرغم من انها تمكنت من احتلال مساحة مرموقة في القطاع الخاص، وكذلك الى حد كبير في الوظائف العامة. فهل يكون السبب في ندرة الوجود السياسي للمرأة في لبنان، هو في عدم قيام حركة نسائية مؤثرة فعالة شبيهة بما حصل في اوروبا واميركا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي؟
عام 1968 قامت الثورة الطالبية في فرنسا التي ادت الى تنحي الجنرال ديغول عن السلطة، واحدثت موجة من التحرر الفكري كانت له ارتدادات في جميع المدارس والجامعات، ومن ثم المجتمعات في كثير من البلدان. ومعها ولدت الحركة المعاصرة لنصرة المرأة كي تتخلص من هيمنة الرجل على حياتها دامت لقرون طويلة ولو بدرجات تختلف بين منطقة واخرى او عصر وآخر؛ يومها بدأت هذه الحركة مع حفنة من النسوة اطلقن شعاراً يبدو بسيطاً، بل بديهياً للوهلة الاولى، يطالبن فيه «بتحرير اجسادهن وحياتهن».
Christine Delphy, Antoinette Fouque, Monique Wittig ثلاثة اسماء لسيدات فرنسيات جمع بينهن الادب والعلم والفكر والثقافة وارادة لا تلين. كتبن وحاضرن ونزلن الى الشارع وحرّكن المجتمع كله، واجبرن بذلك الطبقة السياسية على تشريع الابواب على مصراعيها للمرأة كي تدخل العمل السياسي. لقد اردن وللمرة الاولى في تاريخ البشرية، المطالبة ليس بحقوق المرأة فحسب، وانما احداث صدمة قوية تقلب المعايير رأساً على عقب للتخلص نهائياً وبشكل كامل من الهيمنة الذكورية سواء تمثلّت بالزوج، او بالأب، او بالأخ، او بالمدير او بالزعيم السياسي.
نجحن في ذلك، واي نجاح، حيث لم يعد مقبولاً الآن ان تؤلف حكومة في فرنسا لا يكون نصف اعضائها من النساء، ناهيك عن الحضور الانثوي الكثيف في البرلمانات والاحزاب والبلديات ... مما ضاعف عدد المهارات والطاقات والخبرات المتوافرّة للخدمة العامة.
اما حان الوقت كي نتعلم هذا الدرس من «أمنا الحنون»؟
اما في الموضوع الثاني، اي اهلية التكنوقراط لتسلم الوزارات، فبدأ الجدال فيه عقيماً وبيزنطياً كمن يبحث عن جنس الملائكة، خصوصا انه تم الخلط عن قصد او غير قصد بين مفهوم التكنوقراط ومفهوم الحيادية او الاستقلالية (او ما شئت من التعابير) عن التيارين السياسيين القائمين في البلد.
اول من ابتدع كلمة «تكنوقراطية» هو المهندس الاميركي وليم هنري سميث سنة 1919، واراد به التعبير عن نوع من «الديموقراطية الصناعية» يدمج العمال في مراكز القرار داخل المصانع ومؤسسات الانتاج. وتمازجت هذه النظرية مع الفكر الماركسي الداعي الى حكم البروليتاريا وتزامنت مع قيام حكم السوفيات في العشرينيات، والذي كان في الواقع مزيجاً من البيروقراطية والديكتاتورية والتكنوقراطية والنخبوية الحزبية، الا انه سقط بعد فترة استمرت سبعين عاماً بسبب الفشل الاقتصادي وغياب حرية الرأي وطغيان العمل المخابراتي على الناس، وكان ان دفعت التكنوقراطية ولو جزئياً ضريبة هذا الفشل.
وفي المقابل، جاءت تجربة الحزب الشيوعي الصيني التي بدأها Deng Xiaoping في الثمانينات والتي قامت على ادخال التكنوقراط في مراكز القرار السياسي. فالاختصاصيون في العلوم والهندسة صاروا يشكلون اكثر من نصف اعضاء اللجنة المركزية، وكذلك ايضاً كامل اعضاء المكتب السياسي وأتت النتيجة مذهلة حيث شهدت الصين على مدى سنوات نمواً اقتصادياً كبيراً وزاد تأثيرها في السياسات والقرارات الدولية.
واسسّ الجنرال ديغول في فرنسا، سنة 1945 «المدرسة الوطنية للادارة» بغية تهيئة الشباب والشابات لتبوؤ المناصب العالية في الادارات الرسمية والخاصة. خريجو هذه المدرسة هم تكنوقراط بامتياز وقد تمكنوا من الاضطلاع دور محوري في الجمهورية الخامسة، حيث ان ثلاثة منهم اصبحوا رؤساء للجمهورية، وسبعة رؤساء حكومة الى جانب العديد من الوزراء، ناهيك عن رؤساء شركات كبرى في مجال الصناعة والمصارف والتأمين الخ ...
كل هذأ يجعلنا نتساءل : الى اي حد نحن في لبنان نستفيد من الخبرات العلمية التي يكتنزها شبابنا وشاباتنا، واي امل نترك لهم في ادارة شؤون البلاد وفقا لما يحلمون به.
وهل يمكن السير قدماً ونحسّن المؤشرات الديموقراطية والثقافية والاقتصادية والعدالة الاجتماعية اذا استمرينا في تهميش دور المرأة من جهة ودور التكنوقراط من جهة ثانية؟
طبعاً لا، لأننا بذلك نحذف اكثرية الطاقات البشرية التي نمتلكها وندفعها الى الهجرة للعمل تحت سماء تقدّرهم على النحو الذي يستحقونه بجدارة.