استهلال
يأسِرُكَ نَصٌّ ما، فَتُوغِلُ فيهِ، وتُبحرُ بينَ سطورهِ لتتمكّنَ منه، وتسعى لتَفكَّ رموزَه، وتحلّلَ دلالاتِه، حتّى ولو أعدتَ قراءتَهُ أكثرَ من مَرَّة. قد تأسِرُكَ الّلغةُ بما تحملُهُ من جماليّاتٍ ورموز وصورٍ شعريّةٍ (حتى لو كان النّصُ سرديّاً)، أو قد يأسِرُكَ الحدَثُ المسرودُ بما يحملُهُ من تفاصيلَ ودلالاتٍ وإشكالياتٍ متعددةِ المستوياتِ. أن يغريكَ نصٌّ ما، ويجذبَك لإعادةِ قراءتِهِ فورَ انتهائِكَ من قراءتِكَ الأولى فهذا أمرٌ يُحْتَسَبُ لصالح النّصِ وكاتبِه.
عندما أنهيتُ قراءةَ روايةِ (امرأة الرّسالة) للكاتبةِ، والفنانةِ التشكيليةِ الفلسطينيةِ رجاء بكرية قفزت أمامي تساؤلاتٌ عدّة. هل ما قرأتُهُ في روايتِها التي صدرت لأول مرة عام 2007 عن (دار الآداب) في بيروت، وأعيدَ إصدارُها في طبعةٍ ثانيةٍ عام 2014 عن (دار الجندي للنشر والتوزيع) في مدينة القدس المحتلة، هلْ كانَ قصةَ عشقٍ مجنونٍ، أم نصّا ايرتوكياً، أم نصّاً سياسيّاً، أم نصّ أزمةِ هويّةٍ، أم نصَّ مكانِ، أم أنّه نصُّ كلِّ هذه المستوياتِ مجتمعة في نصٍّ روائيّ واحد ؟! أمامَ هذه التساؤلاتِ أعدتُ قراءةَ (امرأة الرّسالة) مرةً ثانيةً في غضونِ أيامٍ معدوداتٍ حتى أتمكّنَ من الولوجِ في عالمِ السّاردة، والمسرود.
يَعمدُ بعضُ الكتّابِ إلى جعلِ القارئ شريكاً في كتابةِ النّص. بمعنى أن ينتقلَ بالقارئ من دورِ المتلقي (السلبي) إلى دورِ المتلقي (الإيجابي) وجعلِه أحدَ أبطالِ عملِهِ إذا كانَ النّصُ سرديّا. أن يُقْحِمَهُ في عالمِ النّصِ، ويُغْرِقَهُ في تفاصيلِهِ، ويورّطَهُ في البحثِ عن حلولٍ لأزماتِ شخوصِهِ الروائيةِ، ومُواكبةِ مساراتها، وانفعالاتِهم. إنّ عملاً بهذه المواصفاتِ لا بدّ وأن يكون عملاً إشكالياً بامتياز، وبالتالي لا بدّ وأن تعطيه حقَّه في قراءتِه، والكتابةِ عنه إذا شئت.
إضاءةٌ في ظلالِ (امرأة الرّسالة)
تبدأ الكاتبةُ رجاء بكريّة روايتَها برسالةٍ تبعثُ بها نشوة، وهي باحثةٌ فلسطينيةٌ في شؤون المسرح، تقيمُ في مدينة حيفا (كما يتّضحُ اسمُها ووظيفتُها فيما بَعْدُ) لحبيبها غسّان، وهو مخرجٌ مسرحيٌّ مقيم في مدينة عكّا (كما يتّضحُ اسمُه ووظيفتُه فيما بَعْدُ أيضاً)، وتوقّعُها باسم (امرأة الرّسالة)؛ هذا الوصفُ الذي تحملُه الرّوايةُ اسماً لها. في الإهداءِ تَرِدُ إشارةٌ مُبَكِّرةٌ لجانبٍ من دلالاتِ النّص: (إلى عَكّا وإليْكْ...).
في روايتِها تطلقُ رجاء بكريّة العنانَ للساردةِ (نشوة) لِتحكي قصّةَ الزّمانِ، والمكانِ، وتروي الأحداثَ بأسلوبِ البوحِ، وانثيالِ الذكرياتِ حول حالةِ العشقِ الجنوني التي نشأت بينها وبينَ غسّان، الشخصية المحورية والمركزية في الرواية. زمانيّاً، يأتي غسانُ بعدُ وقبلُ في علاقتِها به، إلا أنّه يظلُّ الطّاغي في حضورهِ، حتّى في حالاتِ غيابِه الماديّ عنها. قبله كان (وائل) الذي ارتبطت به بحالة حبّ رومانسيةٍ وسافرَ للعمل في الخليج، وبعده كان كاظم، العراقي الهارب من وطنه المحتلِ أيضاً، والذي عاشتْ معه في شقتهِ اللندنية حياة مشاركة، حاول خلالها مرارا التقرّب منها دون جدوى، فولاء قلبها ظلّ لغسّان بكل ما تحمله تلك الشخصيةُ من تناقضاتٍ، ونزواتٍ، وانفعالات، وإن كانت لا تنفي حالةَ الاشتياقِ لكاظم، والسّخريةَ المحبّبَةَ من وائل في ثنايا الرواية.
في (لعبةِ) السّردِ بعثت رجاء بكريّة إشاراتٍ أوليّةً لأهميّةِ الرّسالةِ التي كتبتها نشوة لعشيقها غسّان، هذه الرسالة التي تتحول مع تصاعدِ الأحداثِ إلى (بطلٍ) أيضاً، إذْ يقدّم غسان فيما بعد عرضاً مسرحياً بهذا العنوان (امرأة الرّسالة) من إخراجه، ويعرضه في مدينة يافا. تجسّدت تلك الإشارات الأوليةِ في نوعيّة الورق الذي استخدمته لكتابة الرّسالة، ومكتب البريد الذي بعثته منه، وقد استغرق الأمر منها عدةَ ساعاتٍ وهي تتنقل من مكتب بريدٍ إلى آخر.
في متنِ (امرأة الرسالة)
في الاستهلالِ تساءلتُ: هلْ كانَت (امرأةُ الرّسالةِ) قصةَ عشقٍ مجنونٍ، أم نصّا ايرتوكياً، أم نصّاً سياسيّاً، أم نصَّ أزمةِ هويّةٍ، أم نصَّ مكانٍ، أم أنّه نصُّ كلِّ هذه المستوياتِ مجتمعة في نصٍّ روائيّ واحد ؟! وإذا ما أشرنا إلى أنَّ هذا النّصَ يندرجُ في إطارِ ما يُسمّى (الأدب النسوي) فهل سَعَت الكاتبةُ هنا لتحطيم التابوهات المحرّمةِ في الكتابةِ العربيةِ ؟! وإذا ما أضفنا أن الكاتبةَ تنتمي جغرافيّاً إلى مكانٍ أصبحَ مُلتبِساً في أذهانِ القارئِ العربيّ البعيدِ عن المكانِ، فهل أرادت أن تمسَحَ الغبارَ الذي تكوّمَ بفعلِ السّنين، وتطورِ الأحداثِ، ومحاولاتِ تغيير قشرة المكانِ عنه، وعن الذهنِ المُلتَبِسِ معاً ؟! وهنا أحاول تقديمَ قراءةِ شاعرٍ لنصٍّ سرديّ.
في المكان
المكانُ مركّبٌ أساسيٌّ من مركبّات النّص السّردي، وأحياناً يكونُ المكانُ (بطلَ) النّص. في الرّاهنِ الفلسطينيّ يحتلُ المكانُ أهميّةً خاصّةً في النّص، سواءً أكانَ المكانُ داخلَ حدودِ الجغرافيا الفلسطينيةِ التّاريخية، أو خارجَها. إذا كانَ النّصُ يحكي عن المكانِ الدّاخلي فإنّ الساردَ يعملُ على تثبيتِ هويّةِ المكانِ الذي تعرّضَ لمحاولاتِ طمسِهِ، ونفيّ هويته الأصلية عنه. أمّا إذا كان النّصُ يحكي عن الخارجيّ فإنّ الساردَ يعملُ على تثبيتِ هويّةِ المكانِ الجديدِ (المخيّم في المنفى على سبيلِ المثالِ) وربطِه في المكان الأصلي ربطاً مكانياً وزمانياً ووجودياً.
لم يكنْ تثبيتُ اسم عكّا في إهداءِ (امرأة الرّسالة) ضرباً من ضروبِ العبثِ عندَ رجاء بكريّة، بل إنّه جاء في هذا السياق. غسّانُ من عكّا، ونشوة من حيفا، ووائل من رام الله، وفي الرّوايةِ تعودُ نشوة من لندن إلى مدينةٍ فلسطينيةٍ أخرى، وهي يافا، لِيُصبِحَ بذلك المسرحُ المكانيُّ الدّاخليُّ ثلاثَ مدنٍ فلسطينيةٍ كانَ لها الأثرَ الأكبرَ في تجسيدِ نشاطِ الحياةِ العامةِ في فلسطينَ ما قبل النّكبة، وهي من أكثرِ المدنِ الفلسطينيةِ التي تعرّضت لمحاولات تغيير صورتِها. وأمّا الأمكنة الأخرى التي تردُ في الروايةِ فهي: عمّان، لندن، بغداد، والموصل، فلا بدّ وأنّ لها دلالاتها في النّصِ أيضاً.
إنّ تركيزَ الأحداثِ في ثلاثِ مدنِ فلسطينيةٍ رئيسةٍ (عكّا، حيفا، ويافا) لم يكن عبثياً، بل كان مقصوداً قصداً واعياً. تمرّ السّاردةُ على ذِكْرِ بعضِ الأسماءِ المُسْتَحدَثةِ في تلك الأمكنةِ، إلا أنّها تُظْهِرُ تلكَ الأمكنةَ بأسمائِها الأولى، وفي تجلياتِها الأولى، وتاريخِها الفلسطيني للتّأكيدِ على هويّةِ المكان. ففي كلّ مدينة من تلكَ المدن تتقصّد الكاتبةُ إيرادَ أسماء الأحياءِ والشوارع العربيةِ فيها في مجابهةِ الاقتلاعِ، وتغيير صورةِ ومدلولِ المكان. لقد شاءت الكاتبةُ أن تؤكّدَ على أن الوجود الفلسطيني داخل الكيان الجديد (إسرائيل) ليس وجوداً عابراً، بل إنّه الوجود الأصيل، وما عدا ذلك فهو طارئ. {{أكلهم كانوا أغبياء ؟ جميع الرّسامين حتّى أهملوا حبرَ رملِها! حبر يافا يرسمون به بيوتاً من بخار. كلّما تبخّر بيتٌ نهضَ بيتٌ سواه... النّكبةُ الأولى علّمت الطوبَ أيضاً أن يقاوم موته}}. (ص 236)
كانت لندن أحدَ الأمكنةِ، وكانَ كاظم العراقيّ، الذي لا ينتمي طبقيّاً لطبقةِ نشوة أحدَ شخصيّاتِ الرّوايةِ، وعلاقةُ (نشوة) بالمكانِ وبالشّخصِ لا يمكن وصفها بالعلاقةِ العابرةِ إذا ما تمّ الحديثُ عن إحدى عشرة سنةِ عيشٍ مشتركٍ تحتَ سقفٍ واحدٍ خلفَ ستائرَ مغلقةٍ، وإن دخلت في أربع سنواتٍ منها داخل غرفة الآجاص. لندن منفى آخر، وفي القراءةِ الأولى تساءلتُ: لماذا لا يكونُ كاظم مغاربياً مثلاً، أو مصريا، أو... أو...وفي القراءة الثانيةِ حاولتُ التّأكدَ من واقعيةِ ما ذهبتُ إليه في قراءتي الأولى للرواية، وهو الرّبطُ بين واقعيّ احتلالينِ خارجيين لبلدين عربيين، وما فعل هذا الاحتلال بهمها، وبناسِهما، ومع التفريق هنا بين شكليّ ومقاصد الاحتلالين. وأمّا عمّان، حيث تعارف غسّان ونشوة فيها، فهي جزءٌ من الوجودِ المكاني الفلسطيني بما أصبحت تحملّه من التباساتٍ أيضاً في علاقتِها مع (فلسطينيي الدّاخل) بعد التوقيع على اتفاقيّة السلام بين الأردن و(إسرائيل). ويبدو لي أنّ رجاء قصدت أيضاً إيصال رسالة هوية المكان للقارئ العربي من غير الفلسطينيين، وأن تصرخ بصوتٍ عالٍ: نحنُ، يا عربُ، نحن.
في ذاتِ حديثٍ لها عن (امرأة الرّسالة) التي مُنعتْ في العديد من البلدان العربية صرخت رجاء بكريّة:
{{أردت أن يعرف العرب قضيّتي من خلال طبيعة شخصيّاتي كبشر يحبّون ويكرهون، يعشَقون ويُعشقون، يقاتلون ويُقتلون، ويفتّشون عن رغبات أجسادهم كما يفتّشون عن رغبات تاريخهم. أردت أن ينكتب اسم عكّا وحيفا ويافا في ذاكرة القارئ العربي عبر بوابات جديدة للذاكرة والحدث}}.
في الهوية
{{... لا أعرفُ إذا كان الفلسطيني هنا محسوباً على دولتهم كإنسان. بقلبٍ يبكي ويضحكُ وحسٍّ يتألم ويفرح. لم أشعر لحظةً واحدةً أنني داخل تعريفِ المواطنةِ التي منحوها لنا منذُ رفعنا الأعلامَ البيضاء. وبطاقتي الزرقاء لم يقرؤوها على الحدود دون أن يصنِّفوني ضمن خليةِ الارهابِ التي يدرسون أوصافَها وفق معاييرَ مفترضةٍ عن أشياء ثلاثة: القومية، الدين، واللون...}}. (ص 83)
يُعتَقلُ غسّان ويُحكَمُ بالسّجنِ خمس سنواتٍ بتهمةِ نقلِ حقيبةِ متفجراتٍ من مفترقِ (الكابري) إلى شارع (بن عامي) في عكّا الجديدة. نشوة تشاهده على شاشةِ التلفزيونِ محاطاً بعددِ من رجالِ الأمنِ الإسرائيليين، وغسّان، المخرجُ المسرحيّ يتعاملُ مع هذا الحدثِ بشكلٍ من اللامعقولية وكأنّه أمام مشهدٍ لا يخلو من الفنتازيات، حتّى أنّه لا يكلفُ نفسَه عناء نفي التهمة عنه!. وأمّا رجاء بكريّة فإنّها لا تمرّ على هذا الحدثَ مروراً عابراً، إذْ أظهرتْ لعبةَ الإعلام الإسرائيلي في قلب الحقائق، وعرض (الدّولة) كضحيّة لإِرهابِ لغسان، وكأنّ غسان، (الفلسطيني الّذي يحمل بطاقة زرقاء)، ويمتهن تفجير الأضواء فوق خشبات المسارح يستحيل إلى مخرّب مع سبق الإصرار.
في السّجنِ ينفصلُ غسّان عن زوجتِهُ الشّقراء، جينيا، التي تغادرُ البلادَ حاملةً طفليها منه إلى وطنها للا عودة. وأمّا نشوة التي انتظرته ثلاث سنوات قبل أن تغادرَ إلى لندن حاملةً عشقَها لغسّان معها علّها تنساه، فإنها لا تكفّ عن السعيّ إليه، رغم معرفتِها بتفاصيلِ نزواتِه مع بائعاتِ الهوى من الرّوسيات اللواتي غزوّنَ أسواقَ الدّعارة في مدنِ السّاحل.
(الدولةُ التي منحتُهُ مواطَنتَها تتهمّهُ بخيانتِها)!! هنا تتناولُ الكاتبةُ رجاء بكريّة الهويّةَ الفلسطينيةَ داخلَ إسرائيل كقضيةٍ شائكةٍ، وإشكاليةٍ. الفلسطينيونَ الذين لم يغادروا الديارَ، وأبناؤهم وأحفادُهم الذين ولدوا بعد النّكبةِ وجدوا أنفسَهم في حالةٍ وجوديةٍ ملتَبِسَة. فالدولة التي تدّعي أنهم رعاياها تعاملهم كمواطنين من درجاتٍ دنيا، وهم في دائرة الشّكِ من حيثُ الولاء لها، فهي تعاملهم معاملةً قائمة على التمييز في الحقوق، وتسعى لتجريدهم حتى من أبسطِ حقوقهم الإنسانية، وتطلعاتهم القومية. هل يمكن بالفعلِ أن يقدّم الفلسطينيونَ الولاءَ لِدولةٍ اقتلعتهم من بيوتهم، وشرّدتهم من ديارهم، وأعملت سيفَها في رقابِ أهاليهم، وأوغلَت في دمهم، وحوّلت الآلاف منهم إلى لاجئين حتّى داخل (الدولة)؟! وحتّى تلك (الأقلياتِ من الفلسطينيين) التي تمّ توريطها في (الاندماج في سياسات الدولة) لم تسلم من التمييز ضدها على خلفية قومية، وعادةً ما يُعامَلُ أبناؤها الذين يعارضون سياسةَ الدولة بقسوةٍ بالغة، فكيف الأمر بالنسبة للآخرين؟!
لقد عمل الفلسطينيون في تلك البقعةِ من أرضهم على تعزيز هويتهم الوطنية والقومية بأبعادِها الإنسانيةِ الرّفيعة. وكذلك على حفظِ الذاكرةِ الجمعيةِ لشعبِهم، وسردِ روايتِهم في مواجهةِ الروايةِ النقيضةِ، والنافيةِ لهم، والتي بدأت تتشكلُ لِتخلقَ شرعيتَها المزعومةَ على هذه الأرض. وفي المقابل فإنّ ألـــ (هؤلاء) من الفلسطينيينَ أيضاً في موضعِ شكٍّ وريبةٍ من قبلِ أشقائِهم العرب الذين يتعاملُ بعضُهم معهم كـــ (إسرائيليين) وليس كفلسطينيين لأنّهم يحملون (الجنسية الإسرائيلية)!!
يُغْفِلُ، أو قد يجهلُ الكثيرونَ (من خارجِ دائرةِ الجغرافيا الفلسطينية) الدّورَ الذي لعبه المفكرونَ والمؤرخونَ والكتّابُ والفنانونَ الفلسطينيونَ في تعزيز الهويةِ الكفاحيةِ، ليس في الحياة الفلسطينية وحسب، وإنّما في حياةِ وتاريخِ الحركةِ الثوريةِ العربيةِ خلال عدة عقود. لقد أسس هؤلاء أدبَ المقاومة، وطوروا مفهومَ هذا الأدب بما يتناسب مع المعنى العريض لإنسانيةِ أي حركة مقاومة أو تحرر، وكأنّ الكاتبةَ هنا أرادت الصراخ: نحنُ من هؤلاء الذين حموا الهويةَ القوميةَ في فلسطين، وطافَ منتجُهم الثقافي الآفاق. ألا يعلمُ المشكّكونَ في ولاءِ هؤلاء الفلسطينيين لقوميتهم أنّ إميل توما، وإميل حبيبي، وتوفيق زيّاد، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وراشد حسين، وسالم جبران وغيرهم من أعلام الفكر والأدب العربي المعاصر، وكذلك الجيل الذي جاء بعدهم، هم هؤلاء المُشّكّكُ بولائهم.
في كسر التابوهات
{{لماذا اعذّبُ الكلامَ، ولا أدعُ العتمةَ تذهب إلى فراشِها}}؟ ص 28
في لغةٍ شعريةٍ مدهشةٍ، وجملٍ مكثّفةٍ سريعةٍ ورشيقةٍ، تدخلُ رجاء بكريّة في (امرأة الرسالة) في مربعات كسر بعض (التابوهات المحرمة) في الأدب العربي، وبخاصة (تابو الجنس) من خلال بوحِ نشوة في بعض مناطق النّص، أو سرد الراوي في مناطق أخرى عن عشقها الجنوني لغسان، أو عن علاقتها بصديقها العراقي كاظم. في إطار الفَهْمِ الضيّق والقاصر لمفهوم (أدب المقاومة) قد يجد نصٌّ كهذا رفضاً واستهجاناً واستنكاراً من قبل فئةٍ ما من القراء، وحتى من نقادٍ ومثقفين، وبخاصة أن هذا النّص السردي فلسطيني، ولكاتبة من (الداخل الفلسطيني)، لذا فإن رجاء، وكما ذكرت في مكانٍ سالفٍ هنا، أعلنت ذات حديث لها أنها أرادت {{ أن يعرف العرب قضيّتي من خلال طبيعة شخصيّاتي كبشر يحبّون ويكرهون، يعشَقون ويُعشقون، يقاتلون ويُقتلون، ويفتّشون عن رغبات أجسادهم كما يفتّشون عن رغبات تاريخهم}}.
يُصَنّفُ هذا اللونُ من الكتابة بالكتابة (الأيروتيكية) التي اعتراها سوء الفهم منذ دخولها في النّصوص الأدبية النسوية، وبخاصة في الثلث الأخير من القرن الماضي. ارتبط ظهور هذا اللونِ من الكتابة مع تحقيقِ المرأة العربية لبعضِ حقوقها، واحتلالها مساحاتٍ جديدة في الساحة الثقافية، إذْ تقدمت هي بنفسها للكتابة عن نفسها، بلغتها، ومشاعرها، وأحاسيسها، وتطلعاتها، ورؤيتها للحياة في مواجهة النّص الذكوري الذي نصّب نفسَه متحدثاً بلسانها عقوداً طويلة من الزمن. لقد اثارت هذه الكتاباتُ حفيظةَ الكتّاب الذكوريين، حتى أن بعضهم ربط بينها وبين الكتابات الإباحية، ووضعوها في سلّةٍ واحدة. هنا لا بدّ من الانتباه إلى وجود خيطٍ رفيع بين هذين اللونين من الكتابة، فالكتابة الإباحية تستخدم الجسد كسلعة رخيصة، وأما الكتابة (الأيروتيكية) فإنها تتحدث عن الجسد كقيمة إنسانية، بل إنّ هناك من يفسّر معنى (الأيروتيكية) بلغة الجسد، أي أن الجسدَ يتحدّث عن نفسه بنفسه، كقيمة إنسانية وليس كسلعة سوقية.
يحتاجُ هذا اللونُ من الكتابة إلى جرأةٍ غير عاديةٍ لأنّه يدخلُ في مربعات (التابوهات المحرمة) في النّص الأدبي العربي أولاً، ولأنّ كاتبَهُ امرأةٌ أحيطت بعشراتٍ من الأسوارٍ العاليةِ والمترّاصةٍ من قبل المجتمع الذكوري الذي رسم حدودَ جسدِها كسلعةٍ هو وحده من يحدد قيمتَه، ودوره. وإذا كان هذا النص فلسطينياً فإنّه يحتاجُ إلى جرعةٍ إضافيةٍ من الجرأةِ نظراً لقيودِ القداسةِ التي أحيطت بالقضية الفلسطينية، وبكل ما ينتج عنها من سلوكياتٍ، وآدابٍ وفنون.
في (امرأة الرسالة) تحتل نشوة الشخصيةَ المحوريةَ في الرواية، وتقدمها الكاتبةُ كامرأة عاشقةٍ في مختلفِ مفاصلِ الروايةِ، وأحداثِها، فمنذ أعلنت نشوة عن عشقها لغسان، فإنَّ محركها الرئيس هو علاقتها بغسان، وملاحقتها له، وهروبه منه، وعودتها إليه، والتخطيط المسبق للحمل منه، وتحقيق هذا الهدف في نهاية الرواية. {{ تعترف المرأة ... بأنها ستقتل الرجل إذا لم يتوقف عن مزاولة المومسة مع قطيع النساء، وتضيف أنها ستمهله حتى انتصاف شهرها بالخصب، ثم تحدد اليوم الذي ستحمل منه}}. (ص 233)
لقد غامرت بعشقها المجنون لغسان حين عادت إلى يافا بعد غياب لتخطط مشروع انتقام يخلّ بالنظم، حين خططت الإلتقاء به. التقته في صالة العرض الّتي أعدت لتقديم عرض مسرحيّ يحمل عنوان توقيع رسالتها الأولى له (امرأة الرسالة). فيه خطّطت لقضاء ليلة معه، وجعلتها إحدى أيّام خصبها. تذهب إليه في مدينته عكّا، وتحمل جنينها منه، ثمّ تتسحب عائدة إلى لندن، ومنزل كاظم تحديدا. وهي في هروبها الأخير تعزل نفسها عنه في غرفة الآجاص. حين شعرت بيقظة غسانُ الصغيرُ في أحشائها قررت العودة إلى الوطن عكّا. ونقرأ في عودتها تلك بعدا سياسياً أيضاً يتعلق بحقّ اللاجئين الفلسطينيين في المنافي بالعودة إلى وطنهم الأم.
فواصل وسياقات
في علاقتها بوائل لا تخجل نشوة من اتهامه بالجبن، لأنه كلما حطّ شعرها على كتفه كان يطلب منها العودة للفندق، ليس للاختلاء بها، وإنما للهروب منها. وحين تتحدث عن علاقتها بكاظم فإنها تتحدث بانفتاح عن هذه العلاقةِ التي كسرت فيها أيضا (تابو) الطبقية من خلال إقامتها علاقاتٍ مع صانع أحذية جمعتهما الصدفة في المنافي. إنّ سطوراً قليلة كهذه لا يعدو كونها إضاءة عابرة على هذا الجانب الأهم في الرواية، فكما أشرتُ فإنّ الفكرة الرئيسة في النّص هي فكرة العشق، وإظهار انفعالات النفس البشرية، وحاجات الجسد من وجهة نظر نسوية، وما الأحداث التي تم سردها في الرواية إلا جوانب منطقية في حياة الشخوص، وإن قصدت الكاتبة تحميلها مضامين سياسية أحياناً. إنّ الجرأة التي تحلّت بها رجاء بكرية في روايتها هذه تُحتَسَبُ لها، وليس عليها.
في شاعرية النّص
{{إنّ أصابعهنَّ النحيفةَ وحدها تعرف كيف تربط آخر الشَّعرِ بأولِ الرّوح}} ص18
{{سقط الليلُ في منامتي، وبدأ يستثير دمي ويدفع سكناتِ قلبي ليهرب ثانية مني}} ص 27
{{تمنّيت أن أقبّلَ روحك}} ص 59
{{أريد أن أقبّلَ روحك}} ص61
{{لعلّها رائحتك، أيقظت جسدي، وأفعمت قلبي بدفق شتاء رجع}} ص115
أيُّ إغراءٍ هذا الذي تقدّمُهُ اللغةُ الشّعريةُ للكاتبِ، حتّى لو كان سارداً؟
هذا التساؤل قفزَ أمامي وأنا أقرأ الصفحةَ الأولى من الرواية، بل والجملة الأولى منها: {{فكّ أزرارَ المغلّفِ بأصابع راعشة شوقاً أو رعباً، لا يعرف، لكنّه سمع ضربات قلبه تقفز فوق السطر}} ص11
في (امرأة الرّسالة) تغري اللغةُ الشّعريةُ، رغمَ وعورتِها، الكاتبة، فهذه اللغةُ حاضرةٌ بشكل واضحٍ في روايتها، وبخاصةٍ في تلك المناطق من الرواية التي تلجأ فيها للبوحِ على لسانِ نشوة. وحتى في رسالة غسان إليها. (ص104) فضلا عن رسالة كاظم إليها عندما عادت إلى يافا (ص250) ولا تخلو الحوارات بين الشخوص من هذه اللغة الشعرية العالية.
رجاء بكريّة، تستخدمُ في (امرأة الرّسالة) رؤاها الفنية في الرّسمِ التشكيلي لترسم لوحاتٍ شعريةً في بناءِ نصّ نثريٍّ ثريّ بالأحداثِ والتداعيات، ومغرٍ للقراءةِ، والغوصِ في شكله، وإشكالياته. وفي النّهاية لا أخفي هنا أنّ أولَ ما جذبني في الرواية، وأغراني بالاستعجال في قراءتها هي لغتها الشعرية قبل أي شيء آخر.
-------
* شاعر من فلسطين مقيم في رام الله المحتلة